*صفاء عزب
منحت جمعية الشاعر الفرنسي ماكس جاكوب جائزتها الشعرية السنوية للشاعر المغربي محمد بنيس عن ديوانه «المكان الوثني»، الذي ترجمه إلى الفرنسية برنار نويل بالتعاون مع الشاعر. وبنيس واحد من أهم الشعراء العرب المعاصرين. وقد ترجمت أعماله إلى الكثير من اللغات؛ من بينها: الفرنسية، والإنجليزية، والإيطالية، والألمانية، والإسبانية، والبرتغالية، واليابانية، والروسية، والسويدية، والمقدونية، والتركية، بالإضافة إلى ممارسته النقد. وهو حاصل على دكتوراه الدولة في كلية الآداب بالرباط سنة 1988، في موضوع «الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها»، ويعمل أستاذا للشعر العربي بجامعة الرباط. ويحسب له أنه صاحب الفضل في تخصيص يوم عالمي للشعر عندما استجابت «اليونيسكو» لطلبه أثناء توليه رئاسة بيت الشعر بالمغرب.
هنا لقاء معه عن تجربته الشعرية، والمشهد الثقافي العربي عموما:
* تجاوزت مبكرا حدودك المغربية، فعرفت على نطاق واسع في الغرب.. في فرنسا بالتحديد. كيف جرى ذلك؟
– كنت على اتصال بالغرب منذ 1968، حين توجهت أول مرة إلى باريس. ومنذ تلك السنة، لم تتوقف أسفاري إلى الغرب. ثم جاءت ترجمة قصائد لي إلى الفرنسية على أثر صدور ديواني الأول «ما قبل الكلام» سنة 1969. وبعدها، صدرت ترجمة قصائد إلى السويدية. وفي 1975، نشرت لي جريدة «لوموند» الباريسية قصيدة مترجمة إلى الفرنسية، وصدرت في الفترة ذاتها ترجمة قصائد إلى الإسبانية. أما انطلاقتي نحو اللقاء الشعري والثقافي والمشاركة في مهرجانات، فيرجع إلى 1985، عندما دعيت إلى تظاهرة كبرى أقامها متحف الفنون الحديثة في مدينة غرونوبل الفرنسية للثقافة المغربية. هذه المشاركة فتحت لي أبواب المشاركات اللاحقة في مهرجانات ولقاءات، بين أوروبا وأميركا وأميركا اللاتينية.
* وصفك برنار نويل، مترجمك إلى الفرنسية، بالصبر على البحث عن الأصالة داخل اللغة العربية. إلى أين قادك مثل هذا البحث؟
– برنار نويل شاعر فرنسي كبير، وله معرفة واسعة بالشعر العالمي، وقريب جدا من الشعر العربي المعاصر، من خلال أبرز أسمائه، خاصة الذين ترجمت بعض أعمالهم إلى الفرنسية. حصل التعارف بيننا في أواسط الثمانينات، وابتداء من تلك الفترة ترسخت العلاقة بيننا. وعندما تعاونت معه على إنجاز ترجمة لبعض قصائدي، ثم ديوان «هبة الفراغ»، استطاع أن يذهب أبعد في قراءة شعري وإدراك قيمته. لا شك في أن لرأيه اعتبارا، لأنه متحرر من العقلية الفرانكفونية وبعيد عن القيم السائدة في العالم العربي. ونستخلص من ذلك، أن الكتابة بالعربية مثل الكتابة بغيرها. فالشاعر (أو الكاتب) هو نفسه الذي يعطي البعد الأعلى للغة. لقد كنت واعيا منذ البدء بأن الكتابة بالعربية إما أن تكون حديثة وإما لا. كما كان واضحا لدي أن الانخراط في الحركة الشعرية الحديثة لا بد أن يكون ذا بعد كوني. كل ذلك يتطلب ثقافة واعية بتراثها اللغوي والشعري، وعلى صلة عميقة ومباشرة بالثقافة الإنسانية.
* هل يعني انخراطك في الحركة الشعرية الحديثة هو الذي قاد إلى حضورك شعريا في المشهد الشعري العالمي، أكثر مما لو كنت من الشعراء الكلاسيكيين؟
– طبعا، هذا أمر بدهي. إن لقاءنا العالم الحديث يصعب أن يتحقق من خلال رؤية تقليدية للشعر وللحياة في آن. فالشعر العربي التقليدي، كما نعرفه لدى أحمد شوقي أو من سواه، ليس له أي حضور في الوسط الشعري الغربي، بخلاف الشعر العربي الحديث. بل إن شعرنا القديم ذو مكانة أقوى من التقليدي، تتسع شيئا فشيئا إمكانية ترجمته وتداوله بين الشعراء والفلاسفة الغربيين، وليس فقط بين المستشرقين، كما تعودنا من قبل.
* بماذا ترد على من ينتقصون من قيمة شعر الحداثة في العالم العربي؟
– أتأسف لكوننا لم نقطع المسافة الضرورية، بكل جرأة وشجاعة، لتصبح الثقافة العربية الحديثة مندمجة في نظامنا التعليمي وفي حياتنا العامة، ولم نتجرأ بعد على كسر الطوق المضروب حول اعتقاداتنا السائدة. هناك أدب عربي حديث تراكم عبر أجيال، في كل من المشرق والمغرب، وهو يوما بعد يوم يرفع العربية وثقافتها إلى مستوى الوعي النقدي والجمالي بالذات وبالعالم. ومن ينقصون من قيمة شعر الحداثة يعيشون خارج الزمن الحديث وخارج المغامرة الكبرى لتحديث الشعر واللغة العربية على السواء. إنهم مضادون لحياة العربية، كما أنهم مضادون لحياة مبدعة ومتجددة.
* ترأست «بيت الشعر في المغرب» من 1996 إلى 2003. ونجحت في تحقيق طلبك من «اليونيسكو» بتخصيص يوم عالمي للشعر. فهل تعتقد أن الشعر ما زال يحتل مكانته أم أنه تراجع؟
– هناك بالتأكيد تراجع في حضور الشعر بالوسط الثقافي إجمالا، في المكتبات وفي المعارض، كما في مكانة الشعر ضمن الأنشطة الثقافية. هذه وضعية عالمية، ولأجل مواجهتها كنت قدمت طلبي إلى «اليونيسكو». وتعني هذه الوضعية، قبل كل شيء، سيطرة الأدب الإعلامي، الذي تمثله، في أجلى حالاته، الرواية التي تكتب اليوم. لا بد أن نكون واعين بهذا الذي يحدث. وأول من يجب أن يستوعب الانحسار الذي يعيشه الشعر هم الشعراء. عليهم ألا يتراجعوا عن الشعر وألا يتنكروا له أو يندموا على ما كتبوه. التاريخ لم ينته بعد، وأفق الشعر لا يعد أصحابه بغير إبداع لغة متفردة، هي السبيل كي تبقى اللغة موجودة على الأرض.
* لم تكتف بكتابة الشعر، بل شاركت بقوة في حركة النقد والتنظير للشعر.. كيف توفق بين الاثنتين؟ ألا تجد أن هناك تناقضا بين كتابة الشعر وممارسة النقد؟
– عملي عن الشعر المغربي الحديث، ثم العربي، جاء ضمن تهيئي لشهادات جامعية. وقد اتبعت فيهما الطريق النظري، أي الشعرية، في أحدث توجهاتها. وهي تختلف تماما عن النقد. ولكني لم أتخل قط عن الشعر. ويبقى أن كتابة القصيدة أصعب لأنها إبداع، وكل إبداع يتطلب تثقيفا متواصلا وعملا لا يعرف التعب أو الملل. كتابة القصيدة تنـتمي إلى المجهول، وتجربة كتابتها مختلفة ومتفردة.
* منعت السلطات المغربية مجلة «الثقافة الجديدة» عام 1984. فما طبيعة علاقتك الآن بالسلطة؟ وما طبيعة العلاقة التي يجب أن تكون بين المثقف والسلطة؟
– سلطة الدولة اليوم في المغرب تحترم أكثر حرية التعبير. على أنني كنت دائما حريصا على البعد عن السلطة. فالمثقف له مسؤولية النقد، التي تفرض عليه حماية محيطه الحيوي من أي تدخل في حريته أو فرض تبعيته لأي جهة سياسية. هذا الاختيار صعب، لأننا لم نتعلم بعد قبول ممارسة الحرية المطلوبة للثقافة، كما أننا لم نفهم بعد أن المثقف يقوم بعمل لا يمكن أن يكون ذا معنى إن هو كان خاضعا لمن يمنع عنه حرية الكلام والتعبير والتفكير. وقد كنت على الدوام أقاوم ما يمنع عني حريتي، سواء من جانب سلطة الدولة أو سلطة الأحزاب والمؤسسات السياسية أو حتى الثقافية التابعة للأحزاب.
* في ظل الأحداث التي تشهدها المنطقة العربية، هل ترى أن المثقف العربي فشل في القيام بدوره في هذه الأحداث؟
– لا يمكن الحديث عن المثقفين بالجمع. عندما تفاجأ المثقفون مثلما تفاجأ السياسيون بالربيع العربي، أعلن قسم منهم انحيازهم إلى حركة الشبان ووقفوا إلى جانبها بالكتابة والمشاركة في النقاشات. لكن هناك آخرين تبرؤوا منها. والثقافة اليوم في وضع صعب، بل إن الثقافة تكاد تغيب عن الساحة في أغلب البلاد العربية. ما نعيشه قلب كامل لمشروع تاريخي، وتغيير لمساره، بينما الثقافة ليست مهيأة بما يكفي لتبصر ما نعيش والانتقال إلى أفق مفتوح. يبدو لي هذا الاختيار شبه مستحيل في الفترة الراهنة. وما يمكن أن يقوم به كل من يشترط في عمله الحرية هو أن يعمل بشكل فردي، خارج أي ضغط كيفما كان.
* كيف تقيم تجربتك في «كتاب الحب» مع التشكيلي ضياء العزاوي؟ وما الذي أضافته إليك كشاعر؟
– تجربة «كتاب الحب»، التي هي كتابة تتقاطع مع كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم، كانت مفيدة جدا. فضياء العزاوي يتميز بتجربته الطويلة والرائعة مع الشعر العربي، قديمه وحديثه. وهو خبير بالحوار الذي أقامه مع أعمال شعرية وأدبية. وما أضافته لي هو أنها دفعتني لكتابة عمل لم يكن إنجازه في الحسبان. ويكمن نجاح عملنا المشترك في أن كل واحد منا اشتغل بحرية كاملة.
* كتبت سيرة ذاتية عام 1996 «شطحات لمنتصف النهار». فهل تنوى استكمالها؟
– تراودني أحيانا فكرة كتابة ما بعد «شطحات لمنتصف النهار». لكن، لدي الآن أعمال أخرى تنتظر الإنجاز، وأتمنى أن أنجح ذات يوم في استئـناف ما كنت كتبته. ولا أظن أن ذلك سيسير على نفس شاكلة الكتاب الأول. فأنا أؤمن بأن كل كتاب يجب أن يكون تجربة مستقلة بذاتها. مع ذلك، سنرى.
* ما جديدك في العام الجديد؟ وهل تشهد الفترة المقبلة انخراطا أكثر في الكتابة والدراسة النقدية أم عودة للشعر؟
– أشتغل على ديواني الجديد، الذي أخذ مني وقتا، وأنا منتبه لما يفرضه علي من مراقبة ومعرفة وقدرة على اختراق ما سبقت لي كتابته. أكتب بسلوك الناسكين. ثم إني أعمل على إعادة نشر أعمال لي في طبعات جديدة. لقد كان الشعر كلمتي الأولى وكذلك ستبقى، في الكتابة والحياة.
_______
*(الشرق الأوسط)