أوراق سياسية.. من زمن التيه والنكسات *


* شكري نصر الله

( ثقافات )

عندما أقرأ مقالا أو تعليقا أو محاضرة للدكتور سمير مطاوع ، أعرف سلفا أن ما سأقرؤه هو الحقيقة بعينها. ذلك أننا – معشر الصحافيين- كثيرا ما نلجأ إلى المخبأ السري الناجح عندما نتناول مسائل سياسية أو مواقف بعض السياسيين من دون أن نجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها، فنكتب ونكتب ونستخدم العبارة الشهيرة الغامضة وهي ” المصادر المطّلعة” أو ” المصادر المقرّبة” أو المصادر العليمة” ، فنحفظ لما نكتبه هامشا من الحركة التي تنقذنا من غضب أو عتب أو عقاب هذه المصادر. وفي كثير من الأحيان تكون مصادرنا هي نحن بالذات ، لكننا – بسبب الخوف أو قلة الثقة بمعلوماتنا – ندفع بها عن قدراتنا الصحافية، ونلصقها بالمصادر العليمة والمقربة والمطلعة.. الى آخره . وأذكر أن رئيس الوزراء اللبناني الأسبق صائب سلام الذي ربطتني به علاقة مميزة وحميمة ، كان ينهرني باستمرار عندما يقرأ لي تعليقا أو تحليلا أنسب معلوماته الى مصادر وثيقة ، وكان يقول لي : اذا كانت مصادرك هي أنت فاكتب أنها رأيك ولا تخف . واذا كانت مصادرك معروفة فاذكر اسم المصدر لأن هذا المصدر أدرى منك بما يقال وما لا يقال ، وبالتالي فانه لن ينزعج من تسميته . وكان يقول لي ، ان ما تكتبه وتنسبه الى ” المراجع العليمة او المطلعة” يفقد مصداقيته فورا ما لم تذكر المصدر باسمه ووظيفته.
لكن الدكتور سمير مطاوع ، يكاد يكون أحد القلائل جدا من الذين عرفتهم في مشواري الصحافي الطويل ، الذي لم يلجأ الى هذه المطبّات المهنية . فهو ينسب معلوماته الى مصادر معروفة ومعلومة وذات مصداقية عالية . ويجرؤ على الإفصاح عنها من دون عقدة الخوف التي جعلت مما يكتبه بعض الصحافيين – بشكل عام – حبرا على ورق ، وكلاما في العموميات منمقا يخلو من المصداقية حتى حين يكون صحيحا. ومن المؤكد أن بعض ما أصاب معالجات الكثير من الصحافيين من تردّد وخوف في صحافتنا العربية عائد الى هذا النوع من صحافة ” الممكن” و ” البخشيش” و” السترة” و ” المجاملة” . ولذلك لا نجد الاّ نادرا من يستشهد بمقالاتنا وآرائنا على المستوى الاعلامي الدولي .
غير أن سمير مطاوع تمكّن من أن ينأى بنفسه عن غالبية زملائه العرب ، فلم يلجأ الى هذه المخابىء.
فهو في كتابه الأخير” أوراق سياسية.. من زمن التيه والنكسات” الذي صدر مؤخرا يكتب بأسلوب أكاديمي لا يقبل الغش ولا المداورة ولا المجاملة . ولعل سمير مطاوع هو أحد الأوائل الذين أدخلوا العلم الأكاديمي الى الصحافة العربية ، ولذلك اختاره المغفور له الراحل الكبير الملك الحسين بن طلال رحمه الله من بين العشرات من الكتّاب والمفكرين ، ووضع بين يديه حقائق وأسرار حرب 1967 على الجبهة الأردنية ، وترك له حرية تثمينها وتفنيدها وانتقادها أو تمجيدها . فكتبها سمير مطاوع بملء حريته ، وبأغزر ما جاد به قلمه الأكاديمي.. فطرح موقف الأردن وقيادته امام الرأي العام العالمي المتحيز الجاهل بحقيقة ما جرى الاّ ما جادت به قرائح أنصار اسرائيل في العالم الغربي.
وأنا أعرف أن سمير مطاوع لم ينزل على قلوب بعض الناس والقراء سمنا وعسلا في الأردن وفي خارج الأردن . فقد انقسم أبناء الأردن في رؤيتهم أو آرائهم حول كتابات سمير مطاوع أو مؤلفه الريادي في كتابة التاريخ . فمنهم من أشاد بعلمه وسعة اطلاعه وأسلوبه الأكاديمي . ومنهم حمل عليه حملات شعواء وصلت الى القصر الملكي والى سيد القصر آنذاك .. لكن القصر لم يعط أذنه الى أيّ من هذه الحملات ، بل زاده بعشرات الوثائق التاريخية.. اضافة الى ست أوسبع ساعات من الحوار النادر والمعلومات التي لم تنشر بعد من فم الراحل العظيم الملك الحسين.
وعليه فان سمير مطاوع لم يكتب كلمة أو محاضرة أو كتابا الاّ بعد أن أشبع كتابته بالمعلومات الدقيقة والصحيحة والموثّقة . وأنا أعرف – منه ومن غيره – أنه يملك مكتبة من الوثائق والمراجع والمعلومات الدقيقة ما يفوق قدرة جامعة بأكملها ، بل دولة بأكملها.. وأعرف أيضا أن محاولات جرت لأغرائه بالمال لللإنتقال بوثائقه الى دول تملك منه الكثير وتقدمه اغراء لا يقاوم، لكنها لم تنجح لاعتزاز هذا الصحافي المخضرم بوطنه وبقيادة وطنه التاريخية.
ولا بدّ لي أن أضيف أن سمير مطاوع لا يكتفي بما عنده من معلومات موثّقة ، وأرشيف ضخم من المراجع الثابتة والمؤكدة كي يكتب ما يريد أن يكتب .. بل انه يحمل أرشيفة ووثائقه ويذهب الى لندن اذا اقتضى الأمر، أو الى نيويورك أو حتى الى القدس طلبا لتوكيد وثائقه ، فاذا وجد فيها نقصا أو خللا لجأ الى تصحيحها وتثبيت معلوماتها بحيث اذا نقلها على الورق تكون كاملة من حيث المعلومات والتحليل المركّز الدقيق .. ولعل فصله في كتاب” أوراق سياسية…” الذي تناول فيه موضوع القدس داحضا – وبالوثائق التي لا تحتمل التأويل – كل المزاعم الإسرائيلية المبنية على التاريخ المزيف والكاذب هي المثال الأوضح في هذا المضمار .
وبهذه القدرة الأكاديمية النادرة في وطننا العربي ، استطاع سمير مطاوع أن يخترق كبرى وسائل الاعلام العالمية وينافس محرريها وكتّابها قدرة وثقافة وعلما . وقد كان سمير مطاوع – على سبيل المثال لا الحصر- أول عربي يكتب ويذيع التقارير والنشرات الأخبارية باللغة الأنجليزية في محطة أل بي. بي. سي.
البريطانية الذائعة الصيت . وكان سمير مطاوع ولا يزال واحدا من قلة قليلة من الإعلاميين العرب ، يدعى الى ندوات ومحاضرات ومؤتمرات اعلامية وسياسية على المستوى الدولي . فهو أستاذ جامعي لا يجاريه كثيرون من الأساتذه.. وهو صحافي صاحب خبرة طويلة ومتميزة .. وفضلا عن ذلك فهو متحدث قدير ولكن لا يرمي بكلامه لمخاطبة عواطف الناس بل عقولهم.. وهو أكاديمي يشهد له بالمثابرة والصبر والبحث والتوثيق بحيث أصبح ما يملكه في خزائن وأرفف مكتبته يفوق المائة ألف صفحة من الوثائق .. تضم الكثير من الوثائق التي لا يملكها أحد غيره . ففي كتابيه – بالعربية والإنجليزية- عن ” الأردن في حرب 1967″ أذهل القرّاء بهذا السيل من المعلومات والأحداث التي لم نكن نعرف عنها الكثير . وأذهل العسكريين العرب والأجانب حتى أن صحيفة الواشنطن بوست تناولت الكتاب في عمود على صفحتها الأولى في حينه ، وأشارت الى ما كشفه عن خفايا تلك الحرب وأسباب الهزيمة التي لحقت بالعرب نتيجة لها.
وفي كتابه الأخير الذي أشرت اليه ” أوراق سياسية.. من زمن التيه والنكسات” الذي صدر في مطلع شهر تشرين الأول عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت نقرأ سمير مطاوع المعاصر، الذي تناول بالشرح والتحليل منعطفات استراتيجية في سياسة الأردن الخارجية تجاه التطورات والأزمات التي عاشتها الأمة العربية ، مثل الصراع العربي الأسرائيلي وحروب الخليج الثلاثة، فضلا عن تلخيص المواقف الدولية حول الشرق الأوسط وعلى الشرق الأوسط والعالم بقدرة وتميز عاليين ، فأجمل المواقف الدولية في صفحات قليلة، وأجاب على تساؤلاتها في صفحات قليلة , فأغنى القاريء العربي والمكتبة العربية ، ونقل عقله وثقافته الواسعة ، وتحليله الأكاديمي في صفحات قليلة ووضع قضايا أمته بأسلوب بسيط وواضح أمام القاريء العربي الموجوع والمظلوم والتائه وسط هذه المعمعة الجهنمية التي ألمّت بأمتنا العربية تحت مسميّات خادعة سببها قلة النضج والوعي، والتخلّف ، وتمشيط الّلحى ، والإنسياق الأعمى وراء الشعبيات والحراكات البائسة.. وقبل كل ذلك الجهل بما يخطط لهذه الأمة !!
لكن..
ما دام في بلادنا مفكّرون مثل سمير مطاوع .. وكتاب مثل سمير مطاوع.. ومحللون مثله ، ومتنورون وغير معقدين مثله ، ففي مقدورنا أن نزعم أن الدنيا ما زالت بخير ، وأن العرب يحتفظون بمثل هذه الخميرة الطيبة التي بإمكانها إذا وضعت في ” المعجن” الصحيح أن تبعث البركة في العجينة فتكفي العرب خبزا وعلما وشجاعة! 
_________________
* صدر الكتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ويقع في 328 صفحة من القطع الكبير 

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *