فخري صالح *
لا يختلف الكثيرون من المثقفين والكتاب والفنانين الأردنيين، وكذلك من المهتمين بالثقافة والمتابعين لشؤونها، في وصف العام الماضي بأنه كان عام تراجع الثقافة وتضاؤلِ الاهتمام بها في الجانب الرسمي، وصولاً إلى التخلّص من تكلفتها بدواعي الأزمة الاقتصادية وثقل المديونية التي تعاني منها الدولة. لا أقصد بحديثي عن تراجع الثقافة فقط القرارَ الصعب الذي اتخذته وزيرة الثقافة د. لانا مامكغ بإلغاء مشروع التفرغ الإبداعي، أو تأجيله لحين دراسته وإعادة النظر فيه، حسب تصريحات السيدة الوزيرة، بل أقصد المناخ العامّ الذي أشاعه، وما زال يشيعه الجانب الرسمي فيما يخصّ الثقافة ودور الدولة في دعمها والاهتمام بها. فالمؤشرات جميعها، بدءاً من قرارات الوزيرة بإلغاء بعض المشاريع وتقليص بعضها، والتفكير في اتخاذ جراحات صعبة في ميزانية الوزارة، تدلّ دلالة واضحة على أننا مقبلون على سنين عجاف في الوسط الثقافي، تتمثل في انسحاب الدولة التدريجي من دعم الثقافة والاهتمام بها.
قد يجادل الرسميون قائلين، في السر وربما في العلن، إن دعم رغيف الخبز والوقود أهمّ كثيراً من دعم مسرحية أو كتاب أو إصدار مجلة أو إقامة مهرجان شعري. وهي مقولةٌ صحيحة في ظاهرها باطلة في حقيقتها. إنها، أولاً، تختصر الإنسان في معدته وتحوّله إلى كائن يمشي على أربع، متجاهلةً حاجاته الروحية والثقافية ورغبته في الارتقاء بوعيه وطاقاته الإبداعية الخلاقة. وهي، ثانياً، مقولةٌ مخاتلة لأنها توهم بأن الحكومة تأخذ من نصيب الثقافة والفنون لتعوّض عن النقص في الحاجات الأساسية للفقراء ومحدودي الدخل؛ وهو ما لا يحدث بالفعل، فالحكومة تنقضّ على الحاجات الأساسية للناس بالدرجة نفسها التي تقوم فيها بتقليص دعم الثقافة والاهتمام بها. ما يجري الآن هو إجراءات تصحيح اقتصاديّة تلتهم في طريقها الأخضر واليابس، دون أن تضع في حسابها ضرورة النظر في الآثار الجانبية السلبية، بل الخطيرة جداً، لمثل هذا النوع من القرارات التي تختصر الإنسان في جهازه الهضميّ وجسده الذي يتعرّض للحرّ والقرّ في تتابع دورة الفصول.
لكن الثفافة والفنون ليست زائدة دودية، ليست شيئاً مضافاً إلى مهامّ الدولة وواجباتها نحو مواطنيها، بل هي جزءٌ لا يتجزأ من الحاجات الأساسية التي ينبغي أن تتوفّر للمواطنين عن أيّ طريق. يمكن للحكومة، بالتعاون مع مجلسي النواب والأعيان، ومن خلال الاستعانة بالمخططين الاستراتيجيين والروباط والاتحادات والمؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية، ترتيب الحصول على موارد تكفي لتمويل المشاريع الثقافية والفنية التشكيلية والعروض المسرحية والإنتاج الدرامي. ويمكن إعادة تفعيل صندوق الثقافة، الذي ألغي ذاتَ مجلس نواب، لأنه كان يعتمد في موارده على إعلانات الصحف التي أصبحت شحيحةً إلى درجة لا تقيم أود الصحف نفسها. ويمكن للمخططين الاقتصاديين أن يجدوا بدائل للنسبة الإعلانية التي كانت أساساً لموارد صندوق الثقافة السابق، دون أن يفنئتوا على قوت الفقراء وأصحاب الدخل المحدود. لكن ينبغي أن تصرف هذه الموارد بطريقة صحيحة بحيث تؤدي إلى انتعاش المسرح والمعارض التشكيلية والإبداع الأدبي والفني، لا أن تذهب إلى جيوب المحاسيب والأصحاب والمنتمين إلى الشلّة الواحدة، لأننا في هذه الحالة نغلّب الرداءة على الجودة ونكافئ الأقلّ موهبةً وأهميّة. فهل تسمع وزيرة الثقافة والحكومة، حتى لا نظلّ نراوح في مكاننا هذا العام أيضاً، متعللين بالوضع الاقتصادي الصعب وقلّة ذات اليد؟
– الدستور