*نبيل درغوث
( ثقافات )
وجوه تأتي ووجوه تذهب في عالم الفن كل يوم ولكن بين هذه وتلك تبقى بعض الوجوه ثابتة في ذاكرتنا منقوشة نقشا بفضل ما قدمته من فن أصيل ومختلف.كذلك كان الهادي الجويني طائرا يحلّق في سماءات الفن البعيدة مؤسّسا لنمط مخصوص من الغناء.ذاهبا بالأغنية التونسية بعيدا إلى اليوم.كانت الابتسامة لا تفارق وجهه أبدا. وسيم و أنيق و ذو حضور متميّز. رغم متاعب الحياة تمسك بالابتسامة الرائقة.
الجويني المطرب و الملحن التونسي الكبير. جالت أغانيه المشرق و المغرب مثل أغنية “تحت الياسمينة في الليل” و “لاموني إلّي غاروا منّي”. ولد في 01 نوفمبر 1909 بالمدينة العتيقة في تونس العاصمة تعلّم ما تيسر من القرآن الكريم ب”الكتّاب” بحي سيدي المشرف بمنطقة الحجامين(المدينة العتيقة) و انتقل إلى مدرسة باب الجديد ثم بفرع المدرسة الصادقية هذه المدرسة التي أسسها خير الدين التونسي عام 1875 لتكون منارة التعليم العصري حيث درست بها جلّ النخبة التونسية التي أدارة البلاد.
بدأ الهادي الجويني اهتمامه الموسيقي باكرا حيث كان يحفظ أغاني محمد عبد الوهاب و بعض مشاهير الطرب العربي في تلك الفترة. كان يحيط به أصدقاء لهم الفضل في تعليمه الموسيقى منهم من علّمه العزف على آلة العود و منهم أيضا عازف الفيولنسل الايطالي “بونوار” الذي سهر على تعليمه الترقيم الموسيقي (السولفاج) و بفضل صداقاته المتينة و المتميزة بالموسيقيين تمكن من تدريس السولفاج و العزف على آلة العود بالمعهد الفرنسي للموسيقى.
الهادي الجويني فنان متعدد ملحن متميز و مغني خفيف الروح و عازف بارع على آلة العود. في عام 1933 كان أوّل لحن له لأغنية “شيري حبيتك” و هو لم يتجاوز الرابعة و العشرين من عمره كتب كلمات هذه الأغنية باللهجة التونسية و باللغة الفرنسية (فرانكو أراب) و غنّاها مع المطربة شافية رشدي بطريقة ال”Duo” و نالت هذه الأغنية شهرة عريضة لبساطتها و خفة لحنها. تقول الأغنية:
شيري حبيتك
و أنا من يوم اللّي ريتك
في وسط قلبي زي الفلّة
أنا حطيتك
…………
…………
و أمام نجاح هذه الأغنية استمر الهادي الجويني في التلحين معتمدا على البساطة و الخفة و المرح في الكلمات و الألحان. ليتميز بطابعه الخاص و هو المتصلّ بالأغاني ذات الروح الاسبانية فقد لحّن مجموعة من الأغاني ذات النغمات التونسية مستعملا في ذلك بعض الإيقاعات الاسبانية الحديثة. ولعلّ هذا ناتج عن تأثره ب”الفلامنكو”(Flamenco) إذ منذ طفولته تربّت أذنه على الموسيقى الاسبانية. فهو مولود بحارة تسكنها جالية اسبانية أجواء احتفالاتها وسهراتها الليلية تطبعها موسيقاهم و هكذا تركت الأنغام الاسبانية بصمات واضحة المعالم في تكوينه الموسيقي. و بهذا الأسلوب الموسيقي أحدث الهادي الجويني تجديدا في الأغنية التونسية.
و اختلط الجويني بجماعة “تحت السور” التي تضم نخبة من الصحفيين و الكتاب و الشعراء أمثال عبد الرزاق كراباكة و الهادي لعبيدي ومحمود بورقيبة و جلال الدين نقاش و علي الدوعاجي و محمود بيرم التونسي و غيرهم. و انضم أيضا إلى جمعية “الرشيدية” التي تقدم” الملوف” التونسي و هو عبارة عن موشحات و أدوار بأنغام أندلسية أصيلة. فهذه المرحلة مكنت الهادي الجويني من التألق و تجلّى هذا في أغنية “لاموني اللّي غاروا مني” الذي وضع لها لحنا بروح اللاتينو. تقول الأغنية:
لاموني اللّي غاروا مني
قالوا لي اش عجبك فيها
جاوبت اللي جهلوا فني
خوذوا عيني شوفوا بيها
…………
………..
و تتالت إبداعاته في وضع ألحان مسرحيات غنائية لاقت إعجاب الجماهير في الأربعينات و الخمسينات مثل مسرحية “عائشة القادرة” للأديب الراحل عبد الرزاق كرباكة (1901-1945) و مسرحية “بين نومين” لزعيم جماعة تحت السور الأديب علي الدوعاجي (1909-1949). كما مثّل الهادي الجويني بعدّة أشرطة سينمائية من بينها “الباب السابع” لاندري زوبادا (1946) و “سجل المكتوب” (1952).
رحل عنا هذا الفنان العبقري في 30 نوفمبر 1990 تاركا من وراءه أغاني خلّدت اسمه في تونس و في الشرق. أغان رددها من بعده العديد من الفنانين.
الهادي الجويني فنان سبق عصره موسيقاه متوسطية أغانيه عابرة للأزمنة و الأمكنة.
_________
*كاتب صحفي تونسي