كليوباترا .. بنت الزمّار




*: محمد زكريا توفيق

“الدرس الأول الذي نتعلمه من التاريخ، هو أننا لا نتعلم من التاريخ”. (قول مأثور)

“جهلك بما حدث قبل أن تولد، يجعلك طفلا باقي عمرك”. (سيسرو)
“إذا تجاهلنا الحقائق، سوف تعود لكي تلاحقنا”. (فيليب ديك)
الأيام السعيدة لا تدوم. انحدار مصر سياسيا، الذي أدى إلى فقدها استقلالها، وحولها إلى ولاية رومانية، بدأ مع تولي “بطليموس الرابع” (222-205ق. م)، “فيلوباتور” (المحب لوالده). يتوالى ملوك البطالمة، بطليموس وراء بطليموس، إلى أن نصل إلى بطليموس الخامس عشر.
لكن لم يكن بينهم ملوك عظماء سوى الأول والثاني والثالث. لكن أشهر البطالمة بصفة عامة، هي الملكة كليوباترا (69-30 ق. م) وابنها قيصرون.
كليوباترا، امرأة في غاية الحسن والبهاء. هي كليوباترا السابعة. لأنه لم يكن لدينا كليوباترا واحدة، كما يعتقد معظم الناس. إنما يوجد في تاريخنا، ما لا يقل عن 33 كليوباترا، كلهن مشهورات. لكن السابعة، هي أشهرهن جميعا.
كان الرومان يهابونها ويجلونها. لم لا؟ أليست هي ملكة مصر؟ المعروف أن الرومان، لم يكونوا يهابون أحدا من قبل، بعد تجربتهم المريرة مع القائد “هانيبال”.
كان هدف كليوباترا، هو انقاذ مُلكها والدولة المصرية من التبعية. سعت أن تكون امبراطورة لروما، لكي تحكم العالم كله. كادت أن تنجح بالفعل في ذلك، بعد زواجها من يوليوس قيصر، لولا مقتله عام 44 ق. م. أحداث تبدو صغيرة أو تافهة، لكنها تغير حركة التاريخ ومصير العالم.
لم تيأس. حاولت مرة ثانية مع مارك أنطونيو, كادت أن تنجح للمرة الثانية. فما أجمل أن تشاء الأقدار ما نشاء. لكن، ليس كل ما يطلبه المرء يدركه، والتاريخ لا يكتب بمشيئة الضعفاء، إنما يكتبه الأقوياء.
هزيمة أنطونيو في معركة أكتيوم عام 31 ق. م، أنهت كل أحلامها. أقدمت على الانتحار، خوفا من أن يقوم أوكتافيوس، القائد الروماني، بعرضها بين الأسري في ميادين روما.
آخر ملوك أسرة البطالمة، هو بطليموس الرابع عشر، “قيصرون”، ابن كليوباترا من يوليوس قيصر. لكنه قتل في سن 17 سنة، بأمر من أوكتافيوس، الذي أصبح قيصر روما فيما بعد، باسم “أوغسطس قيصر”.
منذ ذلك الوقت، لم تعد مصر دولة مستقله لها سيادة. بل أصبحت مجرد ولاية رومانية. عزبة كبيرة، صاحبها قيصر روما، أوغسطس. العصر الذهبي، الذي كان في بداية عصر البطالمة، للأسف لم يدم أكثر من قرن واحد. زمن حكم البطالمة لمصر في مجمله، 300 سنة تقريبا. المئة سنة الأولى هي التي كانت زهرة الزهرة، تمثل عصر النهضة والعصر الذهبي.
بطليموس الرابع، فيلوباتير (222-205ق. م)، يمثل بداية الانحدار. قام بقتل والدته بالسم، وقتل أيضا أخيه ماجوس. مات بسبب حياة الإسراف عن عمر 41 سنة. أخت زوجته، أرسينوي، تم قتلها بالسم بعد ذلك مباشرة.
البطالمة الذين تبعوه، لم يكونوا مثل البطالمة الأوائل، تلاميذ أرسطو. إنما كانوا أي كلام، عاوزين يحكموا وبس.
بطليموس الخامس، إبيفانوس، ويعني الظاهر، (205-180ق. م)، تولى الحكم وهو طفل.
بطليموس السادس، فيلوماتير، ويعني المحب لأمه، (180-145ق. م)، تسبب في حرب أهلية بينه وبين أخيه.
بطليموس السابع، فيلوباتير، ويعني المحب لأبيه، (145ق. م)، قتل بعد تنصيبه بسنة واحدة.
بطليموس الثامن، يوجيرتيس الثاني، وتعني الخير، (145-116ق. م)، تزوج من أرملة بطليموس السادس، وكانت له غراميات مع ابنة أخيه. كلتاهما تسمى كليوباترا. كان يسمى بـ “التخين” لأنه كان سمين جدا.
عندما ثار ضده المصريون، فر إلى قبرص. أخته كليوبترا الثانية (ليست كليوبترا أنطونيو التي نعرفها)، تولت الحكم بعده. قام بقتل ابنه منها، ممفتيس، وأرسل جثته ممزقة لها، كهدية في عيد ميلادها. منتهى القسوة.
بعد ذلك، عاد إلى مصر ومات هناك. تاركا ولدين: بطليموس التاسع والعاشر. خلال حكمه، خصص معبدا للإله التمساح، سوبيك. وبنى معبدا للإله هاروريس (صورة من حورس). بها حوض ماء يسبح فيه تمساح حي.
بطليموس التاسع، سوتير الثاني، ويعني المنقذ، حكم مرتين: (116-110ق. م)، (88-80 ق. م). بدأ بناء معبد هاتور في دندرة. اتهم بالتخطيط لقتل والدته. فر إلى قبرص.
بطليموس العاشر، الاسكندر الأول (110-88 ق. م)، كان سمينا جدا، لدرجة أنه لم يكن يقدر على المشي بدون مساعدة.
بطليموس الحادي عشر، الاسكندر الثاني (80 ق. م)، تزوج من عمته، التي كانت تكبره وتحظى بقبول من العامة. قام بقتلها بعد الزواج بأسبوعين. لكنه أُعدم بعد توليه الحكم بـ 19 يوما فقط. لم يعد هناك ورثة شرعيون للعظيم، بطليموس الأول. قتل كل منهم الآخر.
لم تعد مصر دولة عظمى كما كانت في الماضي. الجيش الروماني أصبح الأقوى في العالم. روما، المدينة المتخلفة من الناحية الحضارية، لا تقارن بالاسكندرية، بجمالها وقصورها وبساتينها ومسارحها ونوافيرها ومكتبتها وفنارتها ومتحفها ومعابدها وشوارعها.
كان الإغريق، يحتقرون الرومان، حتى مع احتياجهم لهم. كان الحكام البطالمة الضعفاء، يرشون الرومان لكي يبقوهم في الحكم. ما أشبه اليوم بالبارحة بالنسبة للحكام العرب. كان الرومان يرحبون بذلك، حتى لا يقطعوا تدفق القمح إلى روما من مصر. (البترول في زماننا هذا).
مصر أصبحت، سلة الخبز الروماني. بعد ذلك بقليل، تقسمت المدينة التي كانت بوتقة تنصهر فيها كل الحضارات والأجناس، إلى ثلاثة أقسام: اليهود، الإغريق، المصريين.
بطليموس الثاني عشر، وعائلته التي تشمل: بيرينيس، كليوباترا السادسة، كليوباترا السابعة، أرسينوي، وولدين، قاموا برحلة جماعية إلى منف، لزيارة السيرابيوم، مدفن عجل أبيس.
كليوباترا السابعة، موضوعنا هنا، كانت منبهرة بهذه الرحلة السعيدة، التي أخذتها إلى عبق التاريخ المصري القديم. الفتاة الصغيرة، هي الوحيدة بين البطالمة، التي كانت تتكلم اللغة المصرية.
روما كانت تحكم بثلاثة قواد. كراسوس، بومبي، يوليوس. بطليموس الثاني عشر، الابن غير الشرعي لبطليموس التاسع، والذي يلقب بالزمّار، والد كليوباترا، كان يرشي القواد الرومان، لكي يبقوه في الحكم.
لكي يعوض المبالغ التي ينفقها على الرشوة، رفع الضرائب على المصريين. النتيجة الطبيعية، هي كره المصريين الشديد له. هرب إلى روما، تاركا ابنته بيرينيس، أخت كليوباترا، لكي تحكم.
تولي المرأة الحكم، لم يكن ليحدث أبدا في اليونان أو روما. لأن المرأة لم يكن لها أي دور في السياسة في ذلك الوقت. بيرينيس، لم يكن حكمها مستقرا.
أخذت بالتقاليد البطلمية العريقة في قتل وخنق وخيانة الأقارب. تزوجت من ابن عمها، لكنها أمرت بخنقه بعد أسبوع من الزواج. مثل أنثى العنكبوت المعروفة بالأرملة السوداء. بعد ذلك، تزوجت من عشيق لها.
في ذلك الوقت، كانت كليوباترا في سن المراهقة. نمت وترعرعت في جو رهيب من المؤامرات والقلاقل، وسط ترف وثراء فاحشين. كانت تهرب لكي تقضي بعض الوقت في مكتبة الاسكندرية. هنا، قرأت تاريخ هيرودوت، وعرفت الكثير عن تاريخ مصر الفرعوني.
بعد رشوة يوليوس قيصر، وآخرين، عاد بطليموس الثاني عشر إلى الاسكندرية، مصحوبا بقوة رومانية بقيادة مارك أنطونيو. قتل زوج ابنته بيرينيس في معركة.
بطليموس الثاني عشر، الزمار، كان يريد ترك جثمان زوج ابنته لكي يتعفن. لكن لم يقبل مارك أنطونيو بذلك، وقام بدفن الجثة بنفسه. هذا يعطينا فكرة عن معدن شخصية الرجلين.
بعد أن استرجع بطليموس الثاني عشر عرشه، أمر بقتل ابنته بيرينيس (الأرملة السوداء). الآن، توجد قوات رومانية صديقة لبطليموس، راسية في الاسكندرية، أعظم مدينة في العالم أصبحت محتلة بقوات أجنبية لحماية الحاكم.
قام بطليموس الثاني عشر، الزمار، ببناء معبدا في جزيرة فيلة. فيلة أصبحت مثل الكرنك بالنسبة لبطليموس الثاني عشر. معبد فيلة هناك، عبارة عن تحفة فنية. بني للإلهة إيزيس. التي أصبحت أهم إلهة في مصر. معبد فيلة، تم نقله إلى مكان مرتفع، عند بناء السد العالي.
دعنا نتحدث بصراحة عن هذه الشخصية الأسطورية، كليوبترا السابعة، بنت الزمار، بطليموس الثاني عشر. هناك الكثير من المعلومات الخاطئة عن كليوباترا. السبب، هو أن التاريخ يكتبه المنتصرون. الرومان هم المنتصرون، وهم الذين كتبوا تاريخ كليوباترا.
كليوبترا، حتى قبل أن تلتقي بقيصر، ظهرت عليها سيمات العظمة والرقي، بالرغم من الوسط المرعب والصراع الدموي على السلطة الذي عاشت فيه. كانت ذكية جدا، نشطة منذ نعومة أظافرها. الوحيدة بين البطالمة، التي كانت تتكلم اللغة المصرية. لها شعر أحمر، وفقا لقول بلوتارخ.
بوثينوس، أخو كليوباترا، كان يحرض الناس ضدها، فثاروا عليها. فرت إلى سوريا. هناك، لم تيأس وكونت جيشا.
في نفس الوقت، أمر بوثينوس بقتل القائد الروماني، بومبي، أثناء نزوله من المركب. عند هروبه إلى مصر من روما بعد هزيمته من يوليوس قيصر.
عندما جاء يوليوس قيصر إلى مصر، علم بمقتل بومبي، فهاله هذا الفعل الشائن، بالرغم من أن بومبي كان عدوا له، يحاربه لخلاف بينهما. لكن الذي أبهر يوليوس قيصر، جمال الإسكندرية وعظمة المصريين في ذلك الوقت.
عندما قررت كليوباترا العودة من المنفى (سوريا)، كانت عودتها دراماتيكية، جاءت في كل الأفلام السينمائية التي حكت قصتها. جاءت سرا إلى الاسكندرية، ملفوفة داخل سجادة. اعتقادا منها أنها تستطيع اقناع القائد الروماني الزائر، يوليوس قيصر، بأنها أحق بالحكم من أخيها.
دعت كليوباترا يوليوس قيصر إلى وليمة في القصر الملكي. لكن قيصر اكتشف في الوقت المناسب، عن طريق حلاقه الخاص، مؤامر لقتله دبرها رجال الملك الصبي أخو كيلوبترا.
بعد مقاومة شرسة استطاع قيصر أن يهرب إلى سفنه في ميناء الإسكندرية التي كانت محاصرة بالإسطول المصري. أرسل قيصر رسولا يطلب النجدة من الحامية الرومانية الموجودة في سوريا. في نفس الوقت قام بعدة هجمات على الميناء لتعزيز موقفه.
أحد هذه الهجمات تسببت في حرق جزء كبير من مكتبة الإسكندرية، وتدمير كتبا ومخطوطات لا تقدر قيمتها بثمن. في أحد هذه المعارك، سقط يوليوس قيصر في الماء ونجا من الغرق بأعجوبة.
بعد خمسة شهور، وصلت النجدة الرومانية لقيصر. فقام بهزيمة الجيش المصري، وتنصيب كيلوبترا، ملكة على عرش مصر بدلا من أخيها الصبي.
المسكين قيصر. لم ير في حياته امرأة بهذا التحرر واستقلال الشخصية. المرأة الرومانية لم تكن متعلمة. أما كليوباترا، فكانت تناقش قضايا فلسفية، وتقنع محدثيها، وتقرظ الشعر، وتتكلم عدة لغات، وتعزف الموسيقى، وربما تقوم بالرقص والغناء أيضا.
أثناء حروب الاسكندرية، غرق أخوها الثاني، بطليموس الثالث عشر، أثناء هربه. بذلك، لم يعد لها منافسا لحكم البلاد. بعد ذلك، تزوجت من أخيها بطليموس الرابع عشر، الذي اختفى من الوجود بعد ذلك بقليل.
في ذلك الوقت، كان نجم يوليوس قيصر، يعلو وأصبح شخصية أسطورية. أخذت كليوباترا قيصر لرحلة نيلية. شاهدا الأهرامات، مدينة طيبة، وآثارا ومعابد فرعونية كثيرة.
كان سحرها ودلالها لا يقاومان. وقع يوليوس قيصر في غرام كليوباترا. قام برحلة نيلية معها لمدة شهرين، أنجب فيها ابنا (قيصرون)، اعترف ببنوته. قامت ببناء مستشفي للولادة في هيرمونتيث. كانت تعتبر إلهة وابنها إله.
خلال رحلته النيلية، كان يناقش قيصر، علماء مصر وحكمائها. أحد هؤلاء العلماء هو، سوسيجينوس، الذي كتب العديد من الكتب عن الفلك والنجوم.
أخبر سوسيجينوس القائد الروماني، الكثير عن السنة الشمسية والتقويم المصري، وقارنه بالتقويم الروماني البدائي، ونصحه بإصلاح التقويم الروماني حتى تستقيم الأحوال.
في شهر يونيو عام 47 ق. م، وبعد معركة مع ملك سوريا ومعركة مع فلول خصمه بمبي، عاد قيصر إلى روما لكي ينصبه مجلس الشيوخ دكتاتورا لمدة عشر سنوات.
أول شئ قام به يوليوس قيصر بعد تنصيبه، هو إصلاح التقويم الروماني القديم المبني على السنة القمرية، بناء على نصائح العلماء المصريين. وقام باستبداله بالتقويم الشمسي، المبني على العلم.
ثم قام قيصر بتعميم التقويم الجديد على كل أنحاء الامبراطورية الرومانية. وأضحى اسمه منذ ذلك الحين “التقويم اليولياني”.
لكي يفعل ذلك، كما يقول بلوتارخ، دعا كل علماء وفلاسفة الإسكندرية ومنهم سوسيجينوس إلى روما لكي يطبقوا التقويم الشمسي الجديد الذي سمع عنه في مصر.
التقويم الذي أخذوا به، هو التقويم الذي أمر به بطليموس الثالث عام 238 ق. م. السنة 365 يوما وربع يوم. ثلاث سنوات بسيطة عدد كل منها 365 يوما، تتبعها سنة كبيسة 366 يوما.
لكي يطابق التقويم الجديد الاعتدال الربيعي الذي يقع يوم 25 مارس/آذار، تم إضافة شهرين لسنة 46 ق. م، أحدهما 33 يوما، والآخر 34 يوما، بين شهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول.
بالإضافة إلى شهر آخر في فبراير/ِشباط، حتي يصبح طول سنة 46 ق. م، 445 يوما. بذلك تصبح أطول سنة في التاريخ، لذلك سميت بسنة اللخبطة.
قام قيصر أيضا بتغيير أول السنة من مارس إلى يناير. كما أنه أضاف 11 يوما للسنة القمرية، التي كان يستخدمها، حتى تصبح السنة 365 يوما، بحيث يصبح الشهر إما 30 أو 31 يوما، فيما عدا شهر فبراير الذي كان 29 يوما في السنوات البسيطة، و30 يوما في السنوات الكبيسة.
ظل التقويم المصرى مستخدما حتى سنة 30 قبل الميلاد. ثم فرض التقويم الروماني على المصريين بأمر من قيصر. بذلك، أصبح أول شهر توت بداية السنة فى التقويم المصري القديم (القبطى)، يوافق يوم 29 أغسطس من كل عام حسب التقويم اليولياني.
سمي شهر يوليو تكريما لاسم يوليوس قيصر بعد قتله. بعد ذلك، سمي شهر أغسطس تكريما لاسم الامبراطور الروماني أوغسطس. عندما وجد أنصار الامبراطور، أن شهر أغسطس 30 يوما، وليس 31 مثل شهر يوليو، قاموا بسرقة يوم من شهر فبراير وأضافوه إلى شهر أغسطس.
بذلك يكون شهر فبراير 28 يوما في السنوات البسيطة، و29 يوما في الكبيسة. ويصبح شهري يوليو وأغسطس متساويين في عدد الأيام، كل منهما 31 يوما. وكما يقول المثل الشعبي، “مافيش حد أحسن من حد”.
عاد قيصر إلى روما ومعه كليوباترا وابنها. زوجته كالبورنيا، وكل روما، قابلوا هذه الأحداث بثورة غاضبة. لكنهم لم يروا في حياتهم شيئا مثل كليوباترا، في شخصيتها وثقافتها وشجاعتها.
قام قيصر ببناء فيلا في روما لكليوباترا. تزوجها وأعطاها الصفة القانونية، وجعل ابنه قيصرون وريثه الشرعي. أقام موكب نصر مصري، سارت فيه الزرافات، وسارت فيه أيضا أرسينوي، أخت كليوباترا مصفدة بالأغلال. في روما، أقام قيصر تمثالا لكليوباترا، مثل تمثال الإلهة إيزيس، وتأكيدا لألوهيتها.
في عام 44 ق. م، جاء يوليوس قيصر لحضور عيد 15 مارس، وهو عيد ديني بالنسبة للرومان. تقام فيه المهرجانات والألعاب الرياضية والعروض العسكرية.
لكن، يحث ما لم يكن في الحسبان. يتم اغتيال قيصر، تاركا كليوباترا في وضع صعب للغاية. أثناء ذهاب قيصر لحضور اجتماع مجلس الشيوخ، قابل في طريقه عرافا، كان قد سبق أن حذره من مغبة ذلك اليوم. عندما أعاد العراف تحذيره، قال قيصر: هذا هو اليوم، ولم يحدث لي شيء. أجاب العراف، لكن اليوم لم ينته بعد.
أرسل قيصر حرسه الخاص بعيدا، وجلس على عرشه داخل مجلس الشيوخ. تقدمت إليه مجموعة من واضعي القوانين، وطلب أحدهم توقيعه على وثيقة. عندما رفض قيصر، هجم عليه ومزق ثيابه.
كانت هذه إشارة إلى 23 عضوا، من أعضاء مجلس الشيوخ، بالهجوم على قيصر بالخناجر. كان أحدهم، هو بروتس، ولي نعمته وأقرب الناس إلى قلبه. نظر إليه قيصر بحسرة قائلا قولته الشهيرة: حتى أنت يا بروتس. ثم توقف عن المقاومة، وغطى وجهه بجلبابه، وسقط مدرجا في دمائه على الأرض.
أصبحت كليوباترا الآن، في وضع، يشبه وضع الإلهة إيزيس بعد مقتل زوجها أوزوريس. وصار ابنها قيصرون مثل حورس. في معبد دندرة، نرى كليوبترا وابنها، كآلهة.
آخر مرحلة في حياة كليوباترا، كانت مع مارك أنطونيو. القائد أوكتافيوس (أوغسطس)، وريث يوليوس قيصر، أرسل أنطونيو مع المراكب التي تحمل القمح من مصر. احتفلت كليوباترا بضيفها أنطونيو بطريقة لا يستطيع الفكاك من حبال حبها. قدمت له الطعام في أطباق من ذهب كضيف مفضل. وطلبت منه قتل أختها أرسينوي، التي تسبب لها مشاكل جمة.
حملت كليوباترا من أنطونيو في توأم. الاسكندر هيليوس (الشمس)، وكليوباترا سيلين (القمر). في نفس الوقت، عاد أنطونيو إلى روما، وتزوج من أوكتافيا (أخت أوكتافيوس)، تاركا كليوباترا لمدة ثلاث سنوات.
وافقت كليوباترا على مقابلة أنطونيو في سوريا. هناك تمت الموافقة على الزواج. على أن تقوم كليوباترا بتكاليف حروب أنطونيو، في مقابل حصولها على سيناء ويهوذا وقبرص وشبه الجزيرة العربية، وأن قيصرون، ابن قيصر، يصبح فرعونا، لا أنطونيو أو ولده.
عندما أحرز أنطونيو نصرا متواضعا في أرمينيا، أقيمت الأفراح والليالي الملاح، والولائم في الاسكندرية ابتهاجا بهذا النصر. على منصة من الفضة، لبست كليوباترا ثياب الإلهة إيزيس، وتم إعلان ضم البلاد التي تم الاتفاق. مسبقا على ضمها.
قيصرون أصبح ملك الملوك. ابنها من أنطونيو، الاسكندر هيليوس، أُعطي أرمينيا. بنتها من أنطونيو، كليوباترا سيلين، أعطيت ليبيا. ابنها بطليموس الصغير، أعطي فينيقيا وشمال سوريا.
أصيبت روما بالرعب من كليوباترا. لأن أنطونيو أعطاها هذه الممالك، بدلا من أن يعطيها لروما. عندما أعلن أنطونيو أنه يرغب في أن يدفن بالاسكندرية، قرر أوكتافيوس الحرب على كليوباترا. هنا انقلبت الأحداث رأسا على عقب.
في معركة أكتيوم، حوصر أسطول كليوبترا، ومني بهزيمة كبيرة. أبحرت كليوباترا بكنوزها إلى مصر. ثم قام أوكتافيوس بالزحف إلى الاسكندرية. رفضت كليوباترا تسليم أنطونيو له. وبدأت في البحث عن السم، استعدادا لقدومها على الانتحار.
بعد أن قررت الانتحار، أرسلت إلى أنطونيو تخبره بموتها. أسرع أنطونيو إلى سيفه، وقام بالانتحار، وحُمل إليها يحتضر مضرجا في دمائة. قبض أوكتافيوس على كليوباترا، وسمح لها بدفن زوجها أنطونيو. لكنها قتلت نفسها بين يدي وصيفتيها “إيراس” و”شارميان”، من عضة أفعى الكبرى السامة.
لكن أوكتافيوس، لم يكن ينوي حقا جعل كليوباترا تسير في موكب النصر مع الأسري في روما. بذلك، ينزل الستار على الفصل الأخير من حكم البطالمة.
بعد كليوباترا، عانت مصر من الموت البطئ. أطفال كليوباترا، واجهوا مصائر مختلفة. قيصرون في سن 17 سنة، أرسل إلى البحر الأحمر في رحلة غامضة إلى الهند. لكن، خانه مدرسه، وأقنعه بالعودة إلى مصر. هناك، قتله أوكتافيوس.
طفلاها التوأم، في سن العاشرة، وبطليموس الصغير في سن 6 سنوات، أرسلوا إلى روما لكي تقوم أوكتافيا، أرملة أنطونيو وأخت أوكتافيوس، بتربيتهم. الاسكندر هيليوس وبطليموس الصغير، اختفيا من التاريخ.
ابنتها، كليوبترا سيلين، تزوجت في سن 14 سنة، من ملك موريتانيا (جوبا الثاني). كان رجلا عالما عطوفا. ابنهما بطليموس، قتله كاليجولا في روما. ابنتهما دروسيلا، تزوجت أنطونيوس فيليكس، النائب العام في يهوذا (شمال فلسطين).
مصر تحت الحكم الروماني والبيزنطي، رأت نهاية حضارتها الفرعونية القديمة. المعابد والكهنة، لم يجدوا إلا الإهمال والتجاهل ثم الاضطهاد. اللغة المصرية القديمة ذبلت وماتت، لكن الموت كان بطيئا، استمر ستة قرون.
إلى أن يودع أسكلبيوس فى القرن الرابع الميلادى حضارة كانت في زمانها خيرة مجيدة فيقول والحسرة تملأ قلبه:
“سيجيئ زمان يظهر فيه كأن المصريين قد حافظوا دون جدوى على دينهم بروح العباد البررة. وما دامت العبادة والصلاح لم تؤد إلى شيء. فقد أورثهم خيبة الأمل واليأس.
يبدو أن الآلهة سوف تهجر أرض مصر وتذهب إلى سماواتها العلا. حينئذ, تخلو أرض الرسالات وتغدو يتيمة من آلهتها. ولن تهمل أركان الدين فحسب, بل المؤمنون به سوف يحل بهم الإضطهاد, لأن القوانين تجعل من إيمانهم وصلاحهم أمرا محظورا.
هذا أقسى ما يرزؤها به القدر. حينذاك, ستتحول تلك الأرض المقدسة مثوى المعابد ومعرش الآلهة إلى أجداث. يا مصر لن يبقى من أصول دينك سوى أحاديث خرافة مسطورة على الحجر. تحكى قصة إيمانك. ولا يأخذها الخلف مأخذ الجد, ولا يجدون فيها مبنى ولا معنى
مكتبة الإسكندرية العظيمة، احترقت، أثناء حصار الرومان للأسطول المصري بالإسكندرية. واختفت من التاريخ. لكن لا يزال تأثير الحضارة المصرية على العالم كبير وخطير. التقويم الشمسي الذي نستخدمه الآن، تقويم مصري مئة في المئة. الورق والكتابة، اختراع مصرى، غيّر العالم.
الديانة المصرية القديمة، هي مركز ديانة الحضارة الغربية حتى الآن. ديانة التوحيد، ظهرت أول مرة مع إخناتون، واستمرت إلى الآن. الطقوس المسيحية، من التثليث، والأم المقدسة والطفل، لا تختلف كثيرا عن إيزيس والطفل حورس.
كذلك حكاية البعث والحياة بعد الموت والثواب والعقاب، والجنة والنار. كبير الأساقفة والبابا والروب والتاج والعصا والمذبح والدير والصومعة والرهبنة والعزوف عن الزواج والتطهر بالماء والأجراس والتراتيل والبخور والشخاليل، إلخ. كلها عادات، موروث الحضارة المصرية القديمة.
كذلك المسرح والموسيقى والأدب والشعر والأغاني والمواويل، إلخ. والحكومة والضرائب والمدارس العامة والتعبئة العامة للمشاريع القومية، إلخ. أما ما ورثناه عن الحضارة المصرية القديمة من فن وأدب وعمارة وعلوم وفلك، فلا يتسع المكان لسردها هنا.
هنا ننهي هذه المقالات عن تاريخ مصر القديم. وهو تاريخ غني جدا بالأحداث والتفاصيل. يعتبر متاهة لمن يغوص فيه بدون دليل هادي. موسوعة سليم حسن مثلا، تحتاج إلى تفرغ كامل وحياة كاملة لكي نستوعب ونفهم ما بها. الكتب والمراجع العربية والأجنبية بكل اللغات، ليس لها عدد، ولا يمكن أن يستوعبها فرد واحد.
لذلك يقف شبابنا حائرا، كيف يبدأ وماذا يقرأ وسط هذه المتاهة. نحن نتحدث عن أحداث ثلاثة آلاف سنة على الأقل. فماذا يقرأ من أحداث وماذا يهمل أو يمر عليه مرور الكرام، دون خلل بالتسلسل التاريخي أو المنطقي؟
لهذا كتبت هذه المقالات، بصورة مختصرة. بهدف فتح شهية السادة القراء لطلب المزيد. حاولت أن أبين فيها، الروح المتوثبة لهذا الشعب العظيم، وأمجاده وجزءا من إسهاماته في الحضارة الإنسانية، وما قدمه للبشرية.
راعيت الدقة والأمانة في العرض. مع الالتزام بالبساطة والوضوح. فأرجو أن أكون قد وفقت. شكرا للسادة القراء، لتشريفكم. ولا حرمنا الله من أمثالكم.
____
* ميدل ايست أونلاين

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *