*غدير أبو سنينة
“لا أعرف إلى أين أنا ماض، لكنني متأكد أن المكان الذي سأرحل إليه أجمل من الذي أعيش فيه”. قالها الشاعر النيكاراغوي فرانسيسكو رويس أوذيل قبل فترة من انتحاره، لكن لم ينتبه أحد وقتها أنه كان يعني ما يقول.
في الليلة الأخيرة من عام 2010، كان الشاعر الذي أتم 33 عاما يودع العام السابق بتعليق مشنقته في الغرفة التي كان يستأجرها وحيدا.
عن تلك الوحدة كان قد صرح في أحد اللقاءات التي أجريت معه إثر فوزه بجائزة إرنستو كاردينال المرموقة للشعراء الشباب بقوله: “إنها الوحدة التي تعايشت معها مذ كنت صغيرا، أذكر أنني كنت شخصا منعزلا جدا، ليس لأنني أردت ذلك، بل لأن أمي بالتبني كانت من يعزلني”.
لقد أثرت به تلك التجربة التي كانت نوعا من العقاب الذي مارسته تلك السيدة عليه، ولم يكن يبلغ حينها السادسة من العمر.
الشاعر الناجح
ليس صعبا على من يتحدث مع فرانسيسكو أن يكتشف الصرامة التي لازمت شخصيته. كان صارما في عمله الأدبي الذي أصر أن يعمل في إطاره، فقد كان مسؤولا عن رابطة الكتاب النيكاراغويين، وكانت أعماله الشعرية تنشر دون مشقة خصوصا بعد أن أعلنت الشاعرة النيكاراغوية الكبيرة كلاريبل أليغريا تبني موهبته.
حصل على العديد من الجوائز وكان يدعى لمعظم المهرجانات الشعرية العالمية، بل إن ديوانه الأخير “ذاكرة الماء” كان على وشك الصدور عندما قرر فرانسيسكو أن يدير ظهره لكل تلك النجاحات كي يمسك بتلابيب شبح الموت الذي لطالما طارده.
لم تكن لديه عائلة، ولذلك أصر أصدقاؤه أن يشاركهم الاحتفال بالعام الجديد، لكن رده كان أنه لن يستطيع الإجابة على مكالماتهم لأنه سيحتفل بها وحده في مكان لا يصله الإرسال.
في ديوانه الأول “أحدهم رآني أبكي في الحلم” المستوحى من قصيدة للشاعرة أليخاندرا بيزارنيك، أوجد فرانسيسكو شخصية تقترب من شخصيته وأسماها “أندريس”، يقول عنها: “إنه بديلي، لقد خلقت هذه الشخصية كي أتمكن من قول ما لا أجرؤ على قوله”.
لقد قادت الوحدة فرانسيسكو لموضوع آخر هو الطفولة. ليست تلك الطفولة المدللة والسارة، بل هي الطفولة التراجيدية، طفولة صغير معذب. ففي قصيدته “شخص ما لديه أخبار” يقول: تفوح من طفولة أندريس/ رائحة كريهة/ يكبر و يزداد لون ذاكرته قتامة/ كجسم محترق/… في المرة التي أبقوا على يديه، على بعد سينتمترات من النار/ بذريعة حمله على قول الحقيقة.
أسئلة الوجود
ومع أن إشارات الموت وهواجسه تملأ قصائده، إلا أننا نلمح في ديوانه الأخير تساؤلات عدة حول الحياة والموت، على شكل حوارات في القصائد تارة وتارة أخرى يستخدم الماء والتراب أو الرمل وهي العناصر التي خلق منها الإنسان، جزءا من أسئلته الوجودية.
وفي قصيدة “تحت درجة السلم” من ديوان “ذاكرة الماء” يقول: سرت مرة تحت درجة السلم/ حتى وصلت لنافذة تائهة في عمق هاوية سحيقة/ كانت النافذة تضيع وتضيع/… ربما لأنه في الوقت الذي نولد به/ نضيع.
ولد فرانسيسكو في مدينة ستالي شمال نيكاراغوا عام 1977. لم يتعرف إلى أبويه بل عاش في كنف سيدة من تلك النواحي ترعى الأطفال الأيتام مقابل مبلغ مالي من مؤسسة لرعاية الأيتام. وفي الخامسة عشرة استطاع أن يفر إلى العاصمة مناغوا، ولم يعد مطلقا لمسقط رأيه أبدا مذ رحل عنه هاربا.
شق طريقه في الحياة الثقافية عندما انتبهت إلى موهبته شاعرة نيكاراغوا كلاريبل أليجريا التي كتبت في رثائه قصيدة “لا يوجد إرسال حيث سأكون” تقول فيها: في المكان الذي توجد به/ لا يصل إرسالي/ وبالرغم من هذا، فلن أتوقف عن البحث عنك/ حتى يأتي ذلك اليوم/ الذي سأكون أنا به/ الإرسال.
كانت حياته عندها قد بدأت تأخذ منحى أكثر إشراقا، لكنها عادت إلى سوداويتها عندما انتحر زميله في الغرفة التي كانا يتقاسمان الإقامة فيها، وللمصادفة كان اسمه أيضا فرانسيسكو.
________
*(الجزيرة)