*نصري حجاج
بعد رحيل ستالين بأكثر من نصف قرن وبعد مئات الكتب والمقالات والدراسات النقدية التي كتبها التروتسكيون على الأخص وغيرهم من الاشتراكيين في العالم عن المرحلة الستالينية التي شهدت أكثر حالات القمع الفكري والجسدي لمئات الآلاف وربما الملايين من الماركسيين في الاتحاد السوفياتي والصين تحت طغيان ماوتسي تونغ وريث الستالينية وابنها البار، اقتنع أخيراً كثير من الماركسيين بعنف التجربة الستالينية وديكتاتورية هذا الطاغية حتى داخل الأحزاب الشيوعية التي نشأت في رحم التسالينية وقام كثير من المثقفين في الغرب والشرق بمراجعات لهذا الإرث البشع في التجربة الشيوعية العالمية. إلا أن زياد الرحباني ظل محافظاً على عشقه لستالين ومديحه الدائم لشخصيته فلماذا كل هذا العشق؟
كما يعلم الجميع وكما ذكر زياد الرحباني أكثر من مرة فإنه نشأ تحت سلطة والده السيد عاصي الرحباني الذي عُرفت عنه قسوته وتسلطه في علاقاته مع أبنائه وزوجته السيدة فيروز.
فهل يمكننا والحالة هذه ونحن أمام علاقة حب وكراهية بين الأب وابنه أن نقول إن إعجاب زياد الرحباني الدائم بشخصيات تميزت بالقسوة والعنف أمثال ستالين وبشار الأسد وحسن نصرالله هو نتيجة طبيعية لعلاقته مع والده؟
لقد وقف زياد الرحباني وهو في الرابعة عشرة من العمر متحدياً والده معلناً رغبته بالانضمام إلى حزب الكتائب اللبنانية وصارخاً في وجه الوالد: “أنا كتائبي وحاسس هالشي بدمي وأنه يموت من أجل بيار الجميل (الأب)”.
كان زياد الرحباني مغرماً بالبدلة العسكرية والقبعة العسكرية التي كان يرتديها عناصر ميليشيا الكتائب. وكأن رغبته الدفينة كانت أن يكون عسكرياً. وربما هذا ما دفعه وربما بالصدفة التي يقودها اللاوعي إلى أن يكون أول دور مسرحي له في مسرحية “المحطة” دور الشرطي وكذلك في ثاني ظهور مسرحي له في مسرحية “ميس الريم” يمثل دور الشرطي.
من خلال سيرة زياد الرحباني الشخصية وظروف تكونه الثقافي والنفسي والفني نستطيع أن نقول إنه كان يعاني من عقدة الأب وأنه كان هناك دائماً رغبة لديه في قتل الأب. كانت أول أغنية لحنها للسيدة فيروز هي “سألوني الناس” والتي وضع لحنها عام 1973 وعاصي الرحباني “الأب” كان مريضاً في المستشفى. ما إن رحل عاصي الرحباني عام 1986 حتى بدأ زياد الرحباني رحلة قتل الأب معنوياً من خلال شخصية الأم أي السيدة فيروز.
ففي ألبومه المعروف تكريماً لعاصي والمسمى “إلى عاصي” ومن خلال قراءة التوزيع الخاص بزياد لمجموعة من حوالي عشرين لحناً منتقى من ألحان عاصي تنتمي لأزمنة مختلفة يظهر كيف تصرف زياد بالأغاني إلى درجة أنه محا من الكلام ما يمكن أن نعتبره ربما ثرثرة زائدة عن الحاجة فنحن لا نسمع الأغنية كاملة بل اختار جملة ونوَّع عليها موسيقياً وكأن هناك رغبة دفينة لوضع شخصيته في كل أغنية من أغاني عاصي في محاولة لا واعية لطمس شخصية “الأب” “قتله” وترسيخ شخصيته أي “الأبن”. وعلى الرغم من اللمحة الإبداعية في هذا العمل تقنياً وفنياً إلا أن التحليل النفسي لما فعله زياد في أغاني عاصي لا يمكن إلا أن يقودنا إلى محاولة فرض شخصيته على إنتاج أبيه وكأننا أمام عمل يتعمد تغبيش الذاكرة المنتمية إلى شخص آخر.
أما الألبومات التي لحنها للسيدة فيروز والتي تنتمي إلى نوع الجاز، فهنا على ما أعتقد تتجلى شخصية زياد الرحباني.
لقد خطف زياد الرحباني السيدة فيروز من بيئة الأغاني الريفية البريئة، من الضيعة والعرزال والساحة والمناكفات الساذجة لابنة المختار وأنزلها إلى شوارع المدينة وهذا ربما يحسب له في تغيير الصورة النمطية لفيروز الملاك السفيرة إلى النجوم السابحة في عالم رومانسي حالم، وأدخلها عالم المدينة والسهر والدخان والبارات، فبدلاً من ضوء القمر والنجوم على سطوح القرى، جاءت فيروز مع أغني الجاز لزياد إلى عالم آخر بأضواء خافتة أحياناً وصرخات طرب من نوع آخر. وإذا كان هذا الانتزاع من عالم إلى عالم والذي قام به زياد يسجل له إلا أننا في التحليل النفسي لشخصيته نرى أنه امتداد لمعركته الأولى ضد الأب الذي حشر الأم في عالم بريء خاص به، كما خلق وطناً وهمياً بريئاً اسمه لبنان على امتداد تجربته المسرحية والموسيقية.
لقد جعل زياد الرحباني فيروز امرأة لأول مرة فمنذ بدء تجربتها مع عاصي ومنصور، صارت في أغاني (إلى عاصي) وألبومات الجاز اللاحقة مغنية أنثى حتى صوتها الذي نضج مع العمر صار صوتاً لمغنية تذكرنا بمغنيات الجاز المشهورات في أميركا. وبذا اكتمل القضاء على الأب عند زياد الرحباني من الناحية الفنية ولكنه بقي عليه أن يخوض معركة أخرى أكثر شراسة. فالمراهق الذي أراد أن ينتمي إلى حزب الكتائب في بداية مراهقته ثم انتمى إلى الحزب الشيوعي الستاليني في المرحلة السوفياتية لم يتوقف عن حلمه بالبدلة العسكرية والقبعة (البيريه)، واستمر ذلك الحلم في المسرح وفي الواقع.
برزت شخصية جديدة تماهى معها زياد الرحباني وهي شخصية السيد حسن نصرالله الذي عشقه كثيرون في مرحلة المقاومة ضد إسرائيل، لكنهم سرعان ما بدأوا نقده والتساؤل عن دوره بعد فرض سيطرة حزب الله خارج بيئته الطائفية في 7 أيار 2008 وتصاعد هذا النقد منذ بداية الثورة الشعبية السورية. وكثيرون ممن كانوا يقدرون حسن نصر الله هالهم موقفه من الثورة السورية وانخراطه في القتال ضد الشعب السوري. إلا أن زياد الرحباني العاشق لشخصية المستبد بدءاً من أبيه مروراً بستالين وصولاً إلى حسن نصرالله الذي غيرَّ دوره من مقاوم إلى شريك بقتل الشعب السوري لم يتساءل واستمر في إعجابه وتأكيد هذا الإعجاب. وما تصريحه الأخير حين سمح لنفسه بتمثيل فيروز والنطق باسمها بكل ذكورية استبدادية حول حب فيروز لحسن نصرالله إلاّ كمن يدق المسمار الأخير في نعش الأب لإحكام سيطرته المطلقة على الأم وللأسف هنا كانت السيدة فيروز.
أتذكر قبل أكثر من 10 سنوات نقاشاً لي مع صديق مثقف تونسي حول زياد الرحباني وحول ما قدّمه زياد موسيقياً وما هو سرَّ جماهيريته في الوسط الشبابي وتحديداً في بلاد الشام وتونس وليس في مصر على سبيل المثال اللافت للانتباه.
كانت وجهة نظري منذ تلك الفترة ولاتزال أن زياد الرحباني لم يقدم تطوراً نوعياً على الصعيد الموسيقي لا في مقطوعاته الشرقية ولا في مقطوعات الجاز المطعّم بالموسيقى الشرقية. وذلك إذا ما قرأنا إنتاجه الموسيقي مع ما أبدعه عمالقة الموسيقى الشرقية في مصر وبلدان المشرق والمغرب. ميزة زياد الرحباني في الموسيقى أنه نقل حكي الشارع إلى الأغنية حتى بات الشباب يتماهى مع هذه الأغنية ويجد فيها تعبيراً عما يتداوله من مفردات يومية في حياته. ولكن هل استخدام اللغة اليومية أو حكي الشارع لدى زياد هو إبداع رحباني محض؟
تدلنا التجربة منذ بداية القرن العشرين أن أول من لجأ إلى هذا النوع من الكلام المحكي (الشارعي) في الأغنية العربية، كان سيد درويش أب الموسيقى والأغنية العربية الخالد.
وزياد الرحباني نفسه يشير في أغانيه الشرقية إلى هذا التأثير الواضح لسيد درويش ونقله التجربة الدرويشية كما يشير إلى أغاني بيرم التونسي كأب للشعر الشعبي في العالم العربي. إذن لم يكن زياد الرحباني يوماً مبدعاً لاستخدام حكي الشوارع في الأغنية في المرحلة المعاصرة، أما موسيقى الجاز التي نقلها زياد بشكل حر من كلاسيكيات الجاز، وإن كان هو شخصياً يعترف في ألبوماته بأنه نقل هذه الموسيقى من الجاز الأميركي مع ذكر مؤلفيها، إلا أن الجمهور الذي لا يمتلك خبرة أو معرفة معمقة في موسيقى الجاز الكلاسيكي لا يعلم بهذا النقل والاقتباس، فيعتقد أن الرحباني هو المؤلف وبالتالي يجعله في مصاف مؤلفي موسيقى الجاز، ولما استخدم زياد الرحباني الجاز الشرقي، فقد فشل حقاً في تجاوز الموسيقي التونسي أنور إبراهم الذي استطاع فعلاً أن يقدم جازاً شرقياً أدهش موسيقيي الجاز الأميركيين في مهرجانات موسيقى الجاز في نيو أورليانز، في حين كان الرحباني يأخذ من هنا نوتة ومن هناك جملة ليقدم خليطاً موسيقياً مطعّماً بموسيقى شرقية.
لقد ساعدت عدة عوامل على كسب زياد الرحباني تلك الجماهيرية وتلك المكانة في الساحة الفنية والتي بدأت في لبنان أولاً ودول بلاد الشام تحديداً. من هذه العوامل أن زياد الرحباني هو ابن السيدة فيروز وعاصي الرحباني كما أنه كفنان مكث في ظل انقسام بيروت إبّان الحرب الأهلية اللبنانية في الجزء المحسوب على الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية في وقت صار الحراك السكاني مرتبطاً بالطائفة. فزياد الرحباني المسيحي اختار بيروت الغربية سكناً له في الوقت الذي انتقل كثير من المسيحيين اليساريين أو غير المسيسين إلى بيروت الشرقية وذلك حين اشتدت عمليات القتل والخطف على الهوية الدينية في أسوأ مراحل الحرب الأهلية اللبنانية.
إن التزام زياد الرحباني الجغرافي أعطاه كثراً من الاحترام والإعجاب وخاصة أن الرحابنة والسيدة فيروز أنفسهم لم يغادروا الجزء “المحسوب” على الطرف الآخر من المتصارعين في لبنان. إلى ذلك فإن التزام زياد بالحزب الشيوعي اللبناني أضاف إلى رصيده عندما كان هذا الحزب ملتزماً بالنضال التزاماً كفاحياً وعسكرياً. وبذلك مثّل زياد الرحباني نموذجاً شعبياً مناضلاً برأي الكثيرين من الشباب خاصة ونقيضاً لصورة النجم غير المعني بهموم الناس وتحديداً في ظروف الحرب الأهلية الطاحنة. كل هذه العوامل وما قدمه زياد من أعمال مسرحية نقدية وأغان تحاكي اللغة الشارعية أعطاه ميزة الفنان المحبوب إلى درجة أنه مثل بالنسبة إلى قطاع كبير من الشباب نموذجاً وأحياناً زعيماً لا يخطئ ولا يكذب بنظرهم.
ولكن مثل أي ديكتاتور يبدأ شعبياً ثم ينتهي ليكون شخصية فاشية وقع زياد الرحباني ضحية صورته عن نفسه وأمراضه النفسية الخاصة التي بدأت مبكراً وراح يستغل موقعه هذا في محاولة لتحقيق حلمه اللاواعي في أن يكون شرطياً على أقل تقدير يخوّن ويقصي ويقف إلى جانب القتلة في صراعهم مع الشعوب التي تبحث عن الحرية مثل أي ديكتاتور فاشي صغير.
________
* كاتب وسينمائي فلسطيني (العرب)