*محمود شاهين
حلق الباحث ووزير الثقافة المصري الأسبق، الراحل الدكتور ثروت عكاشة (1920 – 2012)، في فضاءات خصبة للفن، تتناغم ورؤى غوته الفلسفية في تحديده: “.. المهم أن تعرف كيف ترى بعين سبق لها اللمس، وكيف تلمس بيد تجيد النظر)، وذلك عندما وضع عكاشة لسلسلة (موسوعة تاريخ الفن)، والتي أصدرها ما بين عامي 1971 و 2003، شعاراً :
(العين تسمع والأذن ترى). وفيها حلل ووثّق، (عبر ثمانية وعشرين كتاباً) لفنون عالميّة مختلفة، وهذه الكتب، تشكّل، حاليا، مرجعاً مهما للباحثين والدارسين والمثقفين العرب عموماً، والفنانين التشكيليين وطلبة الفنون الجميلة، خاصة. كما أصدر الدكتور عكاشة، مجموعة أخرى من الكتب، باللغة العربيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة، تناول فيها ألواناً أخرى من الثقافة.
فنون عصر النهضة «الرينيسانس»
يعد كتاب (فنون عصر النهضة- الرينيسانس) للدكتور عكاشة، من أهم مراجع فنون ذاك العصر الأوروبي، الذي وصف أنه عصر اكتشاف العالم والإنسان معاً، لأن الكشوفات الجغرافيّة التي حدثت خلاله، مكّنت إنسان هذا العصر من اكتشاف نفسه، من خلال ارتياده للأراضي المجهولة..
واكتشاف عوالم جديدة، ساهمت في إبراز المذهب الإنسانوي والإصلاح الديني، والاكتشافات العلميّة، وازدهار الفنون، ما ساهم في تأسيس العلاقة بين أوروبا والآخر، وإعادة الاعتبار للذات الإنسانيّة: الذات المكتشفة والآخر المكتشف.
يعتبر الكتاب القرن الرابع عشر، بشيراً لعصر النهضة في إيطاليا. إذ أهلّ هذا القرن على أوروبا بملامح متباينة بشّرت بمقدمه. فكان عهداً من عهود الانتقال بين العصر الوسيط الغارب وعصر النهضة المشرق، رغم أنه كان يموج بالصراعات والإضرابات والفتن في أوروبا. وبالتدريج بدأت النسائم الندية لعالم إنساني جديد، تهب على هذه القارة. ففي حين كان شمالها يومها، عاكفاً على تشييد الكاتدرائيات القوطية، انهمك جنوبها في إعادة إحياء الجمال الكامن في المنحوتات الرومانيّة القديمة.
مناخ جديد
أرسى القرن الرابع عشر، كما ترصد الموسوعة، قدماً في عالم العصور الوسطى، وأخرى في عالم عصر النهضة. وشهدت بداياته ميلاد (الكوميديا الإلهيّة) التي كتبها دانتي أليغييري باللغة الإيطاليّة، ما رفع هذه اللغة إلى مصاف اللغات الأوروبيّة العالميّة، وهي أعظم كتاب صدر في العصور الوسطى، إذ ضم أفكار الفرنسيسكان وثقافة اليونان والرومان القديمة. والحقيقة، فإنه مع نشأة النظريّة الفرنسيسكانيّة الجديدة التي قادها القديس فرنسيس، تهاوى مبدأ خضوع الفرد للسلطة الدينيّة الذي ساد القرون الوسطى..
وهكذا فتحت المحبة التي أعلنها القديس فرنسيس للبشريّة أمام الفنانين، آفاقاً جديدة، وكانت رسالته هذه يتلقاها الناس في شكل أمثال وصور بسيطة، وعمد الفنان جوتو (1237-1337) إلى تفسيرها وفق نمط تصويري نابض بالحياة، بعد أن وفر له المناخ الجديد، حرية اكتشاف التوازن بين ما هو تجريدي ..
وما هو مادي، وبين الجوهر الإلهي والواقع الإنساني، وهو ما انعكس على أشكاله الدافئة المعبرة، التي استبدلت الوجوه المحوّرة شبه البلهاء، للقديسين في الفن البيزنطي، بوجوه مفعمة بالرقة الإنسانيّة المرتسمة في فم باسم، أو عين دامعة، ونفذ جوتو أعماله هذه بكثير من الحرية والصدق. الأمر نفسه ينسحب على فن النحت، والزجاج المعشق، والعمارة، والتصوير الجداري، وباقي أجناس الفنون الجميلة والتطبيقيّة والحرفيّة.
أبوللو وفينوس
يعرض الدكتور عكاشة في كتابه، لما مر به الجسد الإنساني في فني التصوير والنحت ممثلاً بنموذجي (أبوللو) (وفينوس) في ما بين العصر اليوناني وعصر النهضة. كما يرصد طبيعة ما أتيح للتصوير الأوروبي، بعد تحلله من الصرامة والجمود، أواخر العصور الوسطى، المتمثل في أن ينهج منهج الاتجاهات الدنيويّة الجديدة. ورغم انتسابه إلى مجموعة متعاقبة من المدارس، اصطلح على تسميته بالطراز القوطي الدولي.
والظاهرة المميزة لهذا الأسلوب(كما يرى الدكتور عكاشة)، الالتزام بشيء من التكلف الذي يُخضع الأشكال كافة، لأسلوب خطي ذي رشاقة وأناقة وذي خطوط منحنية، ينهل رقته من النظرة الجماليّة القوطية. وفي محاولة من المصورين لالتزام المقاييس والنسب والأحجام، رسموا الحقول وهي تضيق كلما أوغلت عمقاً، والشخوص وهم يتضاءلون حجماً كلما ابتعدوا ونأوا. وشُغل الفنانون بهذه الصور التفصيليّة الأنيقة، التي تجمع مباهج فيها غلو وإسراف يُرضي الأمراء.
والحقيقة المؤكدة، هي أن إبداع الأشكال المستمدة من العالم الواقعي كان أولاً من إبداع الفنانين القوطيين، وكان العبء الذي حملته النهضة الإيطاليّة هو الرجوع إلى المصادر الأساسيّة الحقة لفن التصوير والنحت، ولقد كان تأثير فن النحت في العصور الوسطى على فن التصوير في القرن الخامس عشر عظيماً، إذ منحه الإحساس بالكتلة..
كما أضاف الاهتداء إلى تقنية التصوير بالألوان الزيتيّة في منتصف القرن نفسه، صلة أخرى بين التصوير والنحت، إذ عن طريق المبالغة في المحاكاة في التصوير، غدت الأشياء الصلبة، والأجسام الآدميّة، كأنها محفورة في الحجر الصلد أو المعدن المسبوك.
أسماء وأساليب
يتحدث الكتاب/ الموسوعة، عن أسلوب النهضة الإيطالية وتأثر العمارة والنحت والتصوير في فلورنسا، بهذا الأسلوب، مبيناً أن كلمة (الرينيسانس ): “Renaissance “، المتداولة، تعني البعث أو الإحياء التي تأصلت في إيطاليا، منذ عهد الفنان جوتو، وكانت تلاقياً غير مألوف، بين العبقريّة والطاقة والظروف..
ومركّزة حول مدينة توسكانية : (فلورنسا). وللمرة الاولى، منذ عصر أثينا الذهبي، أثبت الفنانون والساسة والعلماء، مجتمعين، أنه ما خلا زمن من الأزمان من عجيبة من العجائب، ولكن أعجب العجائب كلها هو الإنسان. وهكذا مضى كل فنان في عصر النهضة يتابع اهتماماته الخاصة، فيدرس التشريح وقواعد المنظور وعلم اللون، والبصريات والهندسة ومعايير الأوزان والمقاييس.
ومع ازدهار المعرفة، شاعت الصور المبتكرة المثاليّة للإنسان، الذي كان رمزاً للجسارة والإقدام والهيمنة، على ما عداه. وخلال قرن كامل ظهرت موجة إثر موجة من الفنانين اللامعين، الذين أنشؤوا (إيقونوغرافية ) جديدة، يزهو بها عصر النهضة ويختال، ويعني هذا المصطلح قائمة الموضوعات التي تُعنى بها حضارة من الحضارات، أو يُشغل بها عهد من العهود، أو يعالجها فنان من الفنانين.
ومن أبرز رواد العمارة الفلورنسية: برونليسكي، الذي توج بمهارته المعماريّة بناء الكاتدرائية. ومن النحاتين: جيبرتي، دناتللو، أنطونيو بولابولو، فيروكيو، أسرة دللاروبيا. أما في مجال التصوير فظهر: فيليبوليبي، بالدوفينيتي، فرا أنجيليكو، مازاتشيو، باولو أوتشيللو، أنطونيو يولايولو، فيريكيو.
فنانو القرن 16
ليوناردو دافنشي
(1452-1519) من أشهر لوحاته: الموناليزا أو الجوكندا، والعشاء الأخير. وتبين أنه، ومع أنه كان مصوراً عظيماً، فلم يكن أقل قدرةً منه، نحاتاً ومهندساً معمارياً وموسيقياً ومخترعاً وشاعراً، وما أنجزه من أعمال فنيّة خلال حياته، لم يستغرق غير لحظات اختلسها من وقته الذي وقفه ساعياً وراء المعارف العمليّة والنظريّة.
والثابت أنه لم يكن ثمة ميدان من ميادين العلوم الحديثة لم يخطر بباله، سواء أكان ذلك عن رؤى كالتي يراها الحالم، أو إرهاصاً كالذي يسبق الرسالات. كما لم يكن ثمة مجال للتأمل الخصب لم يبرز فيه رجل حر التفكير مثله.
ساندرو بوتتشللي
(1444-1510) يعد من المصورين المهمين في عصر النهضة، إذ اشتهر من خلال مجموعة من اللوحات، منها: الربيع، مولد فينوس، الافتراء، مولد المسيح، منيفا بالاس تروّض القنطور، فينوس ومارس. من أبرز مزايا بوتتشللي، أنه لم يكن يُعنى بالجمال السطحي العابر، ولم يحاول أن يُضفي الجاذبيّة على لوحاته، ونادراً ما كان يراعي الانضباط وفق ما كان مألوفاً من تقاليد في فن التصوير.
مايكل انجلو
(1475-1564) ولد لأبوين في سن الشيخوخة، ما اضطرهما لإرساله إلى زوجة عامل في مقالع الرخام كي تُرضعه، وهكذا أصبحت المقالع عالمه الذي استأثر باهتمامه. كذلك تأثر أنجلو بالتثليث الأفلاطوني الذي قسّم الوجود إلى مستويات ثلاثة، هي: علم الوهم والخيالات، عالم الصيرورة المادي المتغير، العالم العقلاني. هكذا وعلى أساسها قُسّّم المجتمع البشري إلى طبقات ثلاث أيضاً :
المنتجون من العمال والزرّاع، المحاربون، الفلاسفة والحكام. ورُمز لهم على التوالي ب : النحاس والفضة والذهب، وحُدد لكل طبقة هدف: الكسب للعمال، الطموح للمحاربين، الهيام بالحقيقة المطلقة للفلاسفة. وبين أعماله الفنيّة الموزعة على النحت والتصوير، ومنها تماثيله: داود، الشفقة، اليد المغلول، اللاوكوون، أبوللو. أما أشهر لوحاته، فهي «قصة الخلق» التي نفذها في سقف مصلى سيستينا بالفاتيكان، ولوحة «ليديا والبجعة».
رافائيل سانزيو
(1475-1564) كان على رأس الفنانين الذين يدينون بالاتجاه الإنساني، وكانت الكلاسيكيّة هي ما نشأ عليه وعاش، لكنه مزجها بالقصص الديني، وهو ما ميزه كمصوّر. ومن أشهر أعماله سلسلة لوحات العذراء، وأبرزها: عذراء سيستينا، مدرسة أثينا، حفل الآلهة فوق جبل بارناسوس، معجزة صيد السمك، جالا طيا. لم تكن لرافائيل حساسية ليوناردو المرهفة، وكان أقل عنفاً في تصاويره من أنجلو، وكان أميل إلى الاعتدال، وهذا ما جعل فنه أكثر تقبلاً لدى الناس، وأكثر حساً اتساقياً وإيقاعاً وادعاً فياضاً يباين كل المباينة ما كان عليه فن توسكانيا من نبض بالحياة.
سجل تاريخي
تجمع الأجزاء الـ28 للموسوعة، إلى جانب الحديث عن الأساليب الفنيّة في تسلسلها واتساقها، رسوما وصورا للأعمال الفنيّة المختارة، التي غطت العمارة والنحت والرسم والتصوير. كما تغطي مدارج الفن خلال الحضارات الإنسانيّة المتعاقبة، بدءاً من سكان الكهوف في العصر الحجري القديم، مروراً بالفنون القديمة في مصر والعراق وسوريا وبلاد فارس واليونان وروما وبيزنطة والهند والصين واليابان، وانتهاء بفنون عصر النهضة والقرن التاسع عشر.
______
*(البيان)