أريد وطناً


*فراس الهكار

( ثقافات )

«الوطن ليس فندقاً نغادره حين تسوء الخدمة» عبارة تشدق بها متفوهون، ما زلت حتى الآن أجهل قائلها كما أني لم أكلف نفسي عناء البحث عنه في صفحات الشبكة العنكبوتية، لكني أود إخباره أننا أصبحنا بين ليلة وضحاها نتمنى لو يرتقي وطننا لمرتبة فندق، ويُعيد جمع شتاتنا المتناثر في أرض غريبة تلفح رياحها وجوهنا كما لم نألف يوماً، علّنا حينها ننام بطمأنينة تتسلل إلى عروقنا بدل هواجس وكوابيس تقشعر لها الأبدان، تبث في أطرافنا رعشة خوف وبرد صيفي مزمن. 
شعور بشفقة وعطف لا يختلف كثيراً عن دونية يُظهرها جلّ من حولك حتى في لقاءات عابرة لا تدوم، تجعلك تتمنى الموت مئة مرة على مغادرة وطنك الموبوء بكل تطرف البشرية.
ماذا تفعل حين تُغادر بيتك مُجبراً؟ تهرب من مدينتك آملاً في عالم رحب قد يتسع لأحلام تتمنى لو أنها بقيت بسيطة، وظيفة حكومية، زواج تقليدي بابنة جيران ما زالت مبهورة بنمو نهديها المفاجئ، قرض من مصرف حكومي لشراء منزل صغير في أطراف المدينة، وتربية أطفالك على حب الوطن و«القائد».
ضاعت أحلامك في طرفة عين، قضت ابنة الجيران بقذيفة مجهولة المصدر، واستولى مسلحون ملثمون على خزينة المصرف، وألغت الحكومة نظام التوظيف بعد أن شقت مدينتك عصا الطاعة. وابتلع الوطن أطفالك قبل أن يلجوا الحياة.
هوت المدينة بكل ما فيها إلى الجحيم، أما أنت فلست أفضل حالاً من غيرك ممن قُتلوا وهُجروا من بيوتهم وأوطانهم، بل قد تكون أوفرهم حظاً فأنت لم تفقد أحد أفراد عائلتك، أو أحد أطرافك، رغم أنك تصحو في كل صباح على كابوس مزعج، تتحسس رأسك على الفور لتتأكد أنه ما زال مكانه ولم يُقطع بمدية حادة أو تُطيح به رصاصة قناص. 
تقصد مقاه وحانات في مدينة ما زلت تجهل معالمها، تبحث عمن بقي من شعراء وأدباء ومثقفين وصحافيين وأشباه فنانين رمتهم كؤوس العرق على أرصفة شارع «الحمرا»، يتقافز حولهم أطفال نازحون يبيعون زهوراً حمراء وعلكة مطعمة بالنعناع، شللية الأمس هي ذاتها اليوم، لم يطرأ عليها أي تغيير ما زال الخوف يتملك الجميع ، وما زالوا يخشون فيك «عقدة أوديب». 
يترقب جميع من حولك إعلان موقفك واحتجاجك على وضع مأساوي آلت إليه حياتك، يصنفونك ضمن ألوانهم «أبيض، أسود»، وما عليك سوى أن تحدد دائرة لونك، لا يُمكن أن يبقى قلبك «رمادي الهوى»، يتابعون سجل نشاطاتك على «صفحة فيسبوك» شريكتك في غربة لم تخترها، يشاهد معارضو النظام صورك في ساحة الشهداء وسط بيروت مع إصبعين ينفردان في إشارة نصر لا يُعلمه أحد لمن سيؤول؟ تنهال عليك التعليقات، أيها «الشبيح الخائن، حان موعد القصاص العادل. اقطعوا رأسه بسكين، لا أشنقوه شنقاً. دعونا نأكل قلبه». 
صورك في خليج «السان جورج» وخلفك يخوت الخواجات وأرداف الحسناوات العاريات تثير حفيظة مؤيدين لم يعانوا ما عانيته، ولم يفقدوا ما فقدته، يلوكون سيرتك بألسنتهم، «أيها السكّير العربيد يا معارضة الفنادق، برقبتك دماء جميع السوريين»، تُكال لك الشتائم والسباب من كل حدب وصوب. والصورة معكوسة في كلا الحالتين.
يرفضون جميعهم أن ينظروك وأنت تعتل أكياس الإسمنت للطابق الخامس، وتغير سيراميك حمام كبير لـ«بنت الخواجة» كلف تجهيزه ثمن شراء منزل في وسط مدينتك، يتأففون من جلوسك بجانبهم في واسطة نقل تُذكرك برحلاتك المدرسية أيام الربيع، يغضون أبصارهم عنك وأنت تبحث عن بقايا خضار متعفنة في سوق «صبرا» المشهور بـ «نشالين» قد يجعلونك في لحظة مكتوماً بلا هوية وبلا وثيقة تدل على اسمك إن غفلت للحظة يدك عن جيبك. لا يُفكر فيك أحد وأنت تدس رأسك في أكداس «ألبسة البالة» المستعملة في «سوق الأحد» بحثاً عما يستر عريك ويُدفئ عظامك التي نخرها برد الغربة، وشوق أم ثكلى تنتظر لحظة عودة شبكة الاتصالات لتسمع صوتك المتقطع القادم من بعيد، وفي صدرها غصة واضحة تحاول ابتلاعها كي لا تزيد لوعتك. 
تشتاق إلى حبيبة افتراضية عشقتها عبر «كومنت» طبعته على صفحتك، وكان فاتحة حديث طويل، تتبادلان خلاله رسائل إلكترونية دافئة ووجوهاً كرتونية مضحكة وقبلات«تاتش» في محاولة لإطفاء الأشواق وتقليص المسافة، عاشقان حالمان برسائل «مي وجبران»، ولقاء مرتقب على جناح «صخرة الانتحار»، ترسمان مستقبلاً قد تُطيح به في أي لحظة عبوة ناسفة على طرف طريق يكتظ بالمشاة، أو سيارة غادرة تحمل في صندوقها كل أحقاد العالم. ليست حبيبتك «بلقيس» ولم تكن أنت يوماً «نزار»، إلا أنكما قنديلان جمعتهما لحظة اغتراب ومأساة وطن يدمره أبنائه بسواعدهم السمر. ويمكن أن يُطفئ نوركما حقد دفين يمر من جنبكما في غفلة من الزمن ليتلاشى جسداكما وتحشرج الروح «أنا إنسان..أريد وطناً».
______
* صحفي من سوريا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *