* إبراهيم صموئيل
لستُ بصدد الحديث عن جائزة نوبل والكاتبة الكندية آليس مونرو التي نالتها هذا العام، وإنما أحاول المساهمة -فيما يتعلّق بفن القصة القصيرة- بإعادة الحصان إلى مقدمة العربة، بعد أن ظل يوضع خلفها لمرحلة طويلة، بل وبعيداً عنها أحيانا!
ما وجعُ القصة القصيرة ليقام عليها الحدّ، ويُنظر إليها بصفتها “الابن الضال” فتفرد إفراد البعير المعبّد، حتى إذا ما منحت الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للعام الجاري لكاتبة قصص قصيرة، راحت تنهال التهاني والمباركات على كتّاب القصة العرب جراء “إعادة الاعتبار” إلى جنسهم الأدبي المفضل، وإلى أشخاصهم بالمعية؟!
هل كانت القصة القصيرة متهمة لتتمّ تبرئتها، أو مذنبة مدانة ليصدر قرار العفو عنها، أم هي هُمِّشت -في الواقع- وأهملت من قِبل النقاد والدارسين والمؤسسات الثقافية ودور النشر لذرائع لا يعلمها إلا الله، فأهملها القراء بالتالي جراء التعتيم عليها، وانفضّوا عن قراءتها؟!
للقصة القصيرة من الأصالة والعراقة ما يزيد عن مائة عام على ظهورها، سواء أوروبيا غربيا على أيدي أنطون تشيخوف، وغي موباسان، وإدغار آلان بو.. أو عربيا على أيدي محمود تيمور وميخائيل نعيمة، فضلا عن كون بعض الباحثين العرب قد أرجعوا تاريخ القص العربي إلى فن المقامة وغيرها قبل قرون من الآن، مما يعني أن هذا الفن من السرد ليس فنا طارئا، عابرا، ظهر كفقاعة ثم اختفى لعدم جدارته بالحياة!
ورغم ذلك، عانت القصة القصيرة خلال العقود الماضية من أزمة مفتعلة وغرائبية بحيث بدت حالها كحال “البطة السوداء” منبوذة، مُبعدة، في الوقت الذي -وهنا تكمن المفارقة- يستمر فيه التهليل والإشادة بروّادها أوروبيا وعربيا، ويقر بأثر منجزهم القصصي، وديمومته حتى يومنا الحاضر، وممن؟ من قِبَل النقاد أنفسهم الذين أداروا ظهورهم لها، والهيئات ذاتها التي وضعتها في المرتبة العاشرة!!
قيل: إن عزوف القراء عن القصة القصيرة هو ما حدّد موقعها على خارطة المشهد الأدبي، وإدبارهم عن متابعتها هو ما همّشها، والحال أن التهميش حدث جراء القائمين على الترويج، وصنّاع الدعايات، وجرّاء سلوك مهرة التسويق لمختلف البضائع والسلع ومن جملتها الأدب وأجناسه، والفن وألوانه!
ثمة في عالمنا -وعلى مختلف الأصعدة- ما يراد له الظهور وما تسلّط عليه الأضواء، فيظهر ويلمع ويستقطب الاهتمام، وثمة ما يُرغب في التعتيم عليه عبر وسائل الإعلام والمراكز الثقافية، فيتوارى ويختفي ويجد نفسَه في الظل والعتمة، لكأن إمكاناته نضبت، و”موضته” درست!!
وثمة في القصة -كما في الشعر والمسرح والرواية والفن التشكيلي والموسيقى، ومختلف النشاطات الثقافية، ومنذ فجر الإبداع- من المدّعين الكثير، ومن المتسلقين، غير الموهوبين، المستسهلين، رُكاب الموجة، الكثير الكثير.. تماما كما من الأصلاء، الموهوبين، صُناع الارتقاء بهذا الحقل أو ذاك، رهبان الأدب والفن، الكثير أيضا. غير أن هذا كله ليس ذريعة لتنحية إبداع وإهماله.
أردت من ذلك القول: إن خلطا مضلّلا وغلطا فادحا يُرتكبان في عدم التمييز بين القيم الإبداعية الموجودة في هذا اللون الفني أو ذلك الجنس الأدبي، وبين حال عدم رواج منجزاتهما وانتشارها واستقطابها، جراء عدم الاهتمام بها والترويج لها، والعمل على تقديمها للمتلقي وترغيبه فيها.
ألم تكن سميرة عزام في منتصف القرن الماضي رائدة على المستوى الفني الناضج للقصة -فضلا عن ريادتها الزمنية- وعلَما ومعْلما كبيرا في فن القصة القصيرة، ووفية وفاء كاملا لهذا الجنس الأدبي حتى قال عنها غسان كنفاني إنها “أستاذتي ومعلمتي”؟
ورغم ذلك، فقد لاقت من الإهمال في زمنها، ومن عدم التقدير لمنتجها الإبداعي، ومن التعتيم والتغييب لأعمالها ولدورها، ما دفع بالناقد الكبير رجاء النقاش لأن يكتب بألم “لم تُظلم كاتبة في الوطن العربي كما ظُلمت سميرة عزام
هل يتحمل نتاج سميرة عزام القصصي وزر ما أحاق به من حيف؟ هل المشكلة في الجنس الأدبي الذي شُغفت به وأبدعت في حقله، أم أن مأساتها تكمن في تراخي ولامبالاة الحركة النقدية في زمنها، وقِصر بصيرة مَنْ يُفترض بهم التقويم والتقدير في مرحلتها؟
أليس هذا العيب الفادح والفاضح هو ما يفسّر خلال السنوات القليلة الماضية النشاط الواسع للحركة النقدية عنها، وعن أعمالها، ودورها، وأثر منجزها على القصة العربية، وإنْ يكن بمفعول رجعي أو بمثابة اعتذار عمّا لحق بموهبتها وعطائها من حيف وغبن؟!
إنْ كان أمر الإبداع ودرجة الاهتمام بألوانه وأنواعه منوطا بالتراتبيات والأفضليات، فإن قطع ومعزوفات الموسيقى الصرف ستحل في آخر السلم التراتبي، وسفح الهرم الإبداعي، وفقا لميزان كمّ المقبلين على سماعها، والمدبرين عنها.
لقد أقرّ روائيون عديدون -بينهم معلمنا نجيب محفوظ- بالصعوبة البالغة إزاء كتابة القصص القصيرة، والموهبة الخاصة التي يتطلبها إنتاجها، حتى لتبدو للروائي غالب هلسا أنها “لصعوبة كتابتها أشبه بمحاولة وضع فيل داخل زجاجة صغيرة”.
ولعل هذا ما وضع أقصر قصص يوسف إدريس “نظرة” موضع اهتمام معظم دارسي أدبه، لا لكونها الأقصر سردا فحسب، بل قبل ذلك لكيفية تمكّن مبدعنا من إدخال “فيلٍ” بهذا الحجم من المعنى والدلالة والتأثير في أصغر زجاجاته/أقصر قصصه.
في كل الأحوال، فقد بات من الممجوج تكرار القول: يبقى الإبداع هو الإبداع، وما المتغيّر سوى الأزمان والأحوال والاهتمام. وأما الجوائز -من أشهرها نوبل إلى غير المشهورة منها- فإن لها من الحكايا والخفايا ما بات يعرفها ويتداولها الجميع.
فليس صاحب الإبداع الأرفع والأعمق والأنقى والأبعد رؤية والأقدر حرفية هو نائل هذه الجوائز والممنوحة له بالضرورة، الأمر الذي يخلع عن الجوائز -وخصوصا الشهيرة منها- صفة المنح والحجب للقيمة والمستوى والمعيار، فكيف إذا كنا سنضيف دورا ليس لها، مثل “إعادة الاعتبار”؟!
_____________
كاتب وقاص سوري