غرف نوم منفصلة


*عائشة احمد

في بداية المكالمة بينهما، وهو يحدثها عن المنزل الذي رآه في الصباح، عن عدد الغرف، وكمية الضوء التي تنفذ من شباك المطبخ الواسع، عن رخام الحمامات الحديثة، والصالون جيّد التهوية، سألته بهدوء وثقة بعد أن أنهى حديثه، إن كان لا يمانع أن يناما في غرفتين منفصلتين. ظل صامتاً للحظات، وبتردد أجاب وكأنه لم يفهم السؤال تماماً:
– تقصدين.. أنّي لا أمانع إذا كان هنالك سبب ما؟
– لا، بدون سبب فعلاً، فقط ليحصل كل منا على مساحته الخاصة، أنت تعرف…
كتم غضبه وقال لها بنبرة حادة بأنه لا يعرف حقاً! غادر كرسيه الذي كان يجلس عليه بتكاسل ودعة قبل قليل، وصار يروح ويجيء بعصبية وسط الغرفة، ثم قطع حديثها وهي تحاول أن تبرر له، سائلاً إياها بدون مواربة، إن كان هنالك رجل آخر في حياتها؟ لكنها ضحكت بعفوية وصدق، وقالت له أن فتاة في مثل سنها، ورجل في مثل عمره، من الصعب أن يتخليا عن نمط حياتيهما بهذه السهولة. وأنه لا بد أن يتفهم.
مرت لحظات حاول فيها أن يتفهم وأن يهضم ما سمع. جلس على طرف السرير في البداية ثم استلقى بجذعه العلوي على الفراش الوثير وقد ظلت أقدامه ثابتة على الأرض. انحسر الغضب قليلاً وفكر أنها كانت صادقة فيما تقول. حاول أن يحتفظ بأعصابه، وبدت له عمليتها وواقعيتها -التي ظن في البداية أنها فجة وأقرب ما تكون للوقاحة- مريحة بالفعل، بل وموائمة. فعلى الأقل كانت واضحة وصريحة، ولم تكلف نفسها عناء المجاملات، أو الطرق الملتوية.
***
في أول لقاء جمعهما أربكته بطريقة حديثها، كانت ذات نبرة قاطعة، تتعارض مع امتلائها الطفولي وملامحها المنمنمة الناعمة. بدت له أيضاً أصغر بكثير من عمرها الحقيقي.
أما هي، فكان كل ما يدور في رأسها آنذاك، هو ذلك الحديث المكرر واللامتناهي بينها وبين أختها الكبيرة في صباح ذلك اليوم، عن الوقت الذي تضطر فيه كل فتاة إلى تقديم بعض التنازلات لتحصل على أشياء أخرى ضرورية تكتمل بها الحياة.
سارت الأمور بينهما بطريقة فاجأتها. لم تكن متحمسة ولكنها لم ترفض بشكل قاطع. وصارت الزيارات والمكالمات بينهما في ازدياد مضطرد، على الرغم من أنها كانت لا تمتد طويلاً. كل هذا جعلها تفكر، بأنه صحيح لم تكن هناك قصة حب عنيفة، ولا أي محادثات ليلية طويلة، ولا أي كلمات غزل أو مجون، لكن من الصعب القول بأنها لم تكن راضيه أو مكتفية. كانت هي نفسها تتحاشى الخوض في حديث غير ترتيبات الزواج، وأسماء المدعويين، والحديث عن يومها وكيف قضته، بين منسقة الورد والشيف الذي سيطهو عشاء الحفل. وهو أيضاً لم يجد أيّة صعوبة في إبقاء الحوارات بينهما مقتصرة على خطوط الطيران التي ظل يقارن بين أسعارها ومستوى خدماتها، وتخييرها بين الفنادق التي تفضلها، ثم مواصفات المنزل الذي سينتقلون إليه مؤقتاً، ريثما ينتهون من إصلاحات بيتهم الجديد.
وعندما كانت تنتهي من كل تلك التفاصيل، اعتادت أن تستأذنه بحجة رغبتها بالراحة والنوم، وكان هو لا يجد حرجاً في ذلك. لكنها أثارت حفيظته اليوم بحديثها عن الغرف المنفصلة.
***
صار يفكر وهو مستلقٍ على طرف السرير، وقدمه لا زالت ثابتة على الأرض، لماذا يريد أن يتزوج إذن، إن كان سيقضى ليله في السرير وحيداً، وسيصحو في الفراش وحيداً؟ كما هو الحال عليه الآن بالضبط. فلقد ظلت أخته الكبرى في السنوات الأخيرة تقنعه بأنه قد حان الوقت لتكون له حياة مستقلة، وزوجة تهتم براحته وتؤنس ليله، وأولاد يملؤون عليه أيامه. ظلت تلح وتلح حتى أذعن لمرافعاتها وسلم لها أمره، وقد وافق ضمنياً على كل مخططاتها وتدابيرها. لكن ما الذي ستقوله أخته الآن لو سمعت هذا الاقتراح الغير ملائم من عروس المستقبل؟ العروس التي انتقتها بعد شهور من التدقيق والتمحيص من بين عشرات الفتيات.
كان يفكر بكل هذا وهي تسرد عليه مدى صعوبة اختيار الفستان الذي سترتديه في اليوم الذي يلي حفل الزواج، ليوائم مجتمعاً محافظاً مثل مجتمعهم. ثم استأذنته بغرض إنجاز القائمة النهائية للمدعوين مع والدتها وخالتها، فلم يتبق على الزواج إلا بضعة أسابيع.
***
ظل على سريره شارداً ومستغرقاً في التفكير. ثم أدار التلفاز ورفع من مستوى الصوت، لكنه لم يستمع لشيء مما يقال في نشرة الأخبار، كل ما كان يشغل باله وقتها، هو الحوار الذي دار بينهما اليوم وموضوع ‘الغرف المنفصلة’، والذي بقدر ما صدمه إلا أنه كان مطمئناً من ناحية أخرى. الآن على الأقل لن يضطر لأن يقلق بأن حياته كلها، كما اعتادها وألفها، ستتغير تماماً وتنقلب رأساً على عقب. ستتغير بالفعل إلى أسلوب جديد، ليس بالضرورة سيء أو غير مريح، لكنه غريب، وغامض، وغير مفهوم بالنسبة له. ولقد ظل مستلقياً على سريره ومسنداً رأسه على راحة يده لوقت طويل وهو يحاول أن يوازن الأمور ويحللها بمنطق جديد، بعيداً عن تخوفه وتوقعاته السابقة وهو يقلب بين القنوات.
***
في اليوم التالي قرر أن يزورها بدون موعد مسبق، في الطريق أرسل لها رسالة نصية بأنه يود أن يراها إن كانت في البيت. ثم عرج على محل للورد، وقد قرر أن يبتاع لها أول باقة زهور، وذلك لما توليها من اهتمام خاص في معرض حديثها عن إعدادات الحفل، اختار زنابق نارية بلون برتقالي دافئ. تذكر أنها في إحدى مكالماتهم، قالت له عرضاً أنها تفضلها على أنواع الورود الأخرى.
وعندما اجتاز الباب الخشبي الكبير وقد استقبلته في البهو ذي الإنارة الخافتة والذي يقود إلى صالة الاستقبال، لاحظ أنها منفعلة وقلقة قليلاً من تلك الزيارة المفاجئة، لكنها مع ذلك حافظت على هدوئها وهي تبدي إعجابها بالزنابق. جلسا معاً وقد سألها أن تقرأ ما جاء على البطاقة.
فضت المظروف الأبيض الصغير وتحسست بأطراف أصابعها الورود الصغيرة النافرة والمرسومة على وجه البطاقة، وبدأت تقرأ بصوت غير مسموع. بينما صار هو ينظر إليها متأملاً شفتيها الممتلئتين بطريقة شهية، وهي تحركهما، ويدها اليسرى بأصابعها المنمنمة، والتي ظلت تعبث بالأقراط الصغيرة في أذنيها، بطريقة تنبئ بإرتباكها.
كان قد كتب لها، بأن فكرة غرف النوم المنفصلة قد لا تعجبه، لكنه لا يمانع أن يكون لكل واحد منهما حماماً منفصلاً عن الآخر، لأغراض ‘المساحة الشخصية’ ولبعض الخصوصية. ابتسامتها تحوّلت الآن إلى ضحكات قصيرة متعاقبة عندما انتهت. ثم نظرت له وهي شبه مطرقة بخجل، بطريقة لم يرها فيها من قبل. علت وجهها بعض الحمرة الفاتنة وهي تعض على شفتيها، وبدت له جميلة وجذابة على الرغم من بعض الكيلوغرامات الزائدة التي كان يتحفظ عليها، وكانت عيونها أكثر إشراقاً وصفاءً من أي وقتٍ مضى. بدت له وكأنها عاشقة قد وقعت للتوّ في الحُبّ، لأول مرة.
_______
*قاصة قطرية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *