*نذير الماجد
( ثقافات )
كل مضح هو غالبا مبدئي لا يساوم على قضيته ولا يؤمن بأنصاف الحلول، إلا مانديلا ففي داخله مزيج من روح مبدئية نضالية وروح مرنة لملاكم وعداء سريع. “الملاكمة تمتاز بالمساواة بين اللاعبين إذ في الحلبة ليس هناك اعتبار لرتبة أو عمر أو لون أو مال”، كما يقول الرجل الذي يهوى الملاكمة مثلما يهوى “اللعب بالنار”، لم تخطئ قبيلته وأسرته “عائلة تمبو” سليلة الملوك حين سمته “المشاغب” وأورثته النسب الملكي، ولم تخطئ كل العرافات حين قرأت في ملامحه كلمات المنقذ الذي تتوكأ على قامته القارة السمراء، مثلما تتعكز عليها الأرض بقاراتها الخمس.
الطريق إلى الماديبا نيلسون مانديلا لم يبدأ من سجنه في “جزيرة روبين” حيث مكث لأكثر من ربع قرن، عمر كامل قضاه وهو نزيل العتمة يتعلم من الجدران لغتها ومن “زهرة الربيع السوداء” الزهرة القرمزية قدرتها على التخفي والشجاعة والمراوغة، بداية الطريق بداية حالمة لسذاجة ريفية، من هناك في الريف تعلَّم كيف يحب وطنه وبشرته السوداء، ومن سجنه الرهيب في روبين تعلم كيف يصارع “طواحين القدر”، الطواحين التي تدور ببطء أقل بكثير من زمن زنزانته الذي يكاد أن يتوقف.
رجل يمتشق رماح أمته، مثل مانديلا يستحق فعلا لحظة تأمل وإصغاء، شخصية الماديبا مركبة من نصف حلم ونصف واقعية، عقلانية ممتزجة بقدر من الجنون، لم يكن نيلسون مانديلا ما كانه لو لم يكن به قدر من الجنون، الحسابات والتعقل ضرورة، لكن للحلم أيضا مكانة خاصة في خارطة الطريق، الحلم دافع يدفع باتجاه “مانديلا السجين ورئيس الدولة” ومانديلا رجل السلام الذي كان مدرجا – في مفارقة كاشفة – ضمن قائمة أميركية للإرهاب حتى العام 2008 والذي دأبه المغفرة والصفح حتى عن أعدائه.
نصف جنون ونصف عقل، نصف أسطورة ونصف حقيقة بشرية، يساوي مناضلا بحجم مانديلا.. جرد بسيط لأبرز محطات حياته تكشف حسه المغامر وولعه بالمشاغبة الممتزجة بشيء من العقل والجنون معا، فبعد عمر كامل برفقة سجانيه من جلاوزة التمييز العنصري البريتوري، يتسنم منصبه الرئاسي لدورة واحدة فقط (1994- 1999). ثمن بخس وحصيلة متواضعة لم تكن لترضي غير “الزنجي الذي لم يعد في مكانه” والمتواضع الذي لا يتنكر لأصله الريفي وطبيعته الخادمة: ” إذا طلبتم مني أن أكنس الشوارع فسأفعل ذلك”.
وإلى جانب مانديلا الحلم والسياسة والأسطورة، إلى جانب كل “المانديلات” التي يلحظها كاتب سيرته “أنطوني سامبسون” هناك ما هو أكثر تجذرا، هناك السقوط المزمن للكائن البشري، والذي يعيد مانديلا الأسطورة إلى طبيعته البشرية بضعفها ورغباتها وغريزتها الاجتماعية “الإنسان إنسان بفضل الناس الآخرين”.
وفي سيرته الذاتية التي أخذ يكتبها منذ العام 1973 “رحلتي الطويلة من أجل الحرية” يروي حادثة مكتظة بدلالاتها، فالرجل الذي عجنت روحه بالصبر، السجين لسبعة وعشرين عاما أنهكته العزلة الباردة حينما سُجن في زنزانة انفرادية كعقوبة لاحتجاجه على السراويل القصيرة. العزلة في السجن سجن آخر: سجن مضاعف “أنا أعيش في سجن داخل سجن، في بلاد سجن معظم شعبها من قبل أقلية من المهووسين والعنصريين”.
أيام معدودة كانت كافية لكي يتحدث مانديلا إلى الحشرات والصراصير، لكن الأشد هي الجدران التي تنمو داخل الذهن، الحر لا يحمل سجنه معه، ومانديلا الملاكم هو الحر في فكره وموقفه السياسي وهو رجل المناورة الذي يحافظ دائما على “خط رجعته”، ودائما يتخذ مسافة من نفسه، مؤمنا لها التراجع ولفكره التمدد، وهكذا بدأ قوميا مرتابا مما عداه وأنتهى أمميا كونيا مؤمنا بالإنسان ومتجاوزا لكل انتماء ضيق وقومية فاشية، فالرجل الذي كان ينتمي إلى قبيلته الخوسا أولا ثم أفريقيا ثانيا، صار انسانا أولا ثم أفريقيا ثم عضوا في شعب “الخوسا”.
هذه الإنسانية الواسعة التي لا تليق إلا بقلب عجن بالحب والتسامح حتى مع الأعداء، هذه الروح الغاندية الشاسعة والتي احتلت مكانها كحلقة ناصعة في سلسلة الرجال المضحين، والتي وحدت العالم وشهدت معه وضده، بدت منحسرة في معاقل الهويات المغلقة والمتخشبة، حيث تسأل سؤالها الفريد: هل تجوز الرحمة على مانديلا؟ لتنشغل به، بدل الانشغال بمحاولة الفهم وبلورة المفاهيم من سيرة الرجل، هو فعلا سؤال يكشف فداحة العطالة والانسحاب من التاريخ.
العالم يرثي أيقونته ونحن نصوغ أسئلة تشبهنا، فبدل التأسي بسيرة الرجل صرنا نستعجل الحسابات والحسم الأخروي، وعوض مقاربة الرحيل بوصفه حدثا معرفيا يستنفر ملكاتنا الذهنية والنقدية تجاه واقعنا وواقع العالم وبؤسه ومآسيه انحصر النقاش ضمن دائرة ميتافيزيقية ضيقة، كل الطرق في مناخات حرة تؤدي إلى مانديلا الحر والإنسان والمتسامح والمناهض لكل أشكال التمييز العنصري، أما في مناخنا الموبوء فالسماء تشح ببركاتها، صار مانديلا السجين والمسكون بوجع الانسانية جمعاء محاصرا بأسيجة مانوية وخطاب استئصالي يقتل، رمزيا، كل حس وحدوي وانساني.
هل تجوز الرحمة على مانديلا؟ هل هو كافر أم مؤمن؟ سؤال كارثي يعيد رسم الملامح، ضمن رسم كاريكاتوري للذات وللآخر، فإذا كان مانديلا خرج من سجنه لكي يحتضن العالم والإنسان فإن ثمة من ينشر قيوده ويحمل سجنه معه، إن سؤال الرحمة جوهري لأنه يكشف ويعري الطرق الملتوية إلى مانديلا. ذلك الإسم الذي جسد أيقونة النضال والتضحية وتحول إلى “رفيق” للمعذب والملقى في غياهب الهامش والنسيان، ذلك المحارب لكل أشكال السيطرة “حاربت سيطرة الرجل الأبيض وحاربت أيضا سيطرة الرجل الأسود” كل الطرق تؤدي إليه إلا كراهية الآخر وصنمية الذات.
_______
*(ميدل إيست أونلاين)