قبعة ودمّ ورصاصة


*نبيل قديش

( ثقافات ) 

المنزل الوظيفيّ بدا له موحشا ومخيفا، وكأنّه يدخله لأوّل مرّة. خيّل إليه حين أدار المفتاح في القفل وولج أنه رأى كل رؤساءه وزملائه الذين تعاقبوا على سكنه. رأى قبّعاتهم متناثرة هناك وهناك. رأى واحدة وسخة فوق المنضدة الخشبية، واحدة أخرى صلبت على المشجب، مثيلتها كانت على طرف الديفون الجلدي المطلّ من زاوية غرفة الجلوس. 
مزيدا من قبّعات أخرى مذهّبة كانت معلّقة في النجفة وتتدلّي منها في شكل أنشوطة مشنقة. نظر إلى القبعة خاصّته التي كانت تحت إبطه. رماها على طولها وكأنّها حيّة توشك أن تلدغ يده. دارت دورتين على البلاط ثم همدت علي قفاها. أضاء كل الفوانيس، ثم عاد إلى الردهة يطارد القبعات. أغمض عينيه هربا من جحيم القبعات فألمّ به دوار، مادت الأرض تحت قدميه، وشعر بها تدور وتدور.

تبدّل المشهد فجأة، اختفت القبّعات. أصبح يري طفلا يعتلي حصانا خشبيّا في صحن دوّار، بينما كانت امرأة تبتسم له ابتسامة عريضة، وتسنده بيديها خشية أن يسقط، في حين كان الطفل يقهقه جذلا. بدا له ذلك المكان أليفا على نحو ما، اعتصر رأسه الثمل ليتذكرّ الطفل والمرأة والمكان. كان هو وكانت أمّه بالتبنّي وكان المكان دار الأيتام حيث قضى صباه. هرب إلي دورة المياه، ترنح في طريقه حتى كاد يسقط على وجهه، وهو يحتوي رأسه بكلتا يديه. 
وضعها مباشرة تحت الصنبور، فتحه على أقصاه. مسح الماء المتدفّق من شيش الحنفية صورة الصبيّ والمرأة. بدت صورة جديدة تتشكل تدريجيّا. كانت ضبابية، وصاخبة، وكأنه يراها من خلال واجهة بلوّرية ترسّبت فوقها طبقة سميكة من ضباب. عميقا في رأسه، كانت سكاكين تخلط مخّه. شعر أن أحدهم يمسك إزميلا يطرق به طرقا قويّا داخل رأسه، حتي ينحت به شيئا ما ليريه إياه. هرب إلى قاعة الجلوس. أخيرا أصبح يرى المشهد واضحا تمام الوضوح: سمير” الدردور الصغير” بعد أن انقض على مسدسه البيريتا، يلوح به في الهواء، ثم يصوبه نحوهم، صارخا أنّه سيقتل الجميع ثم يجهز على نفسه. أين المسدّس؟ يا إلهي أين هو؟ حرّك في عصبيّة يده ناحية الطوق الجلديّ. كان هناك، سحبه، قلّبه وهو يتهاوي على الديفون أخيرا. كان ملطّخا ببقع من دماء، مسحه بقطعة من قماش كانت ملقاة فوق الطاولة أمامه. 
وضعه علي الطاولة، سحب الخزينة، تثبّت من وجود الخمسة عشر طلقة كاملة بيد مرتعشة دماء من كانت؟ كيف جاءت والرّصاصات كلها هنا؟ لم يعد يتذكّر. ألقى برأسه إلى الخلف ثم أغمض عينيه وقال بصوت نصف مسموع: أمّاه كاد ابنك يسقط من على الحصان، كاد إبنك أن يلّف الحبل حول رقبته.
____________
*كاتب من تونس 

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *