*عمرو منير دهب
لا يزال الغرب كما يقول بعض منظــِّـريه مديناً للفلسفة الهيلينية التي تمثل أثينا في أوج عظمتها الفكرية، غير أن الزاد الذي ابتدعه الإغريق لم يطعم الغرب فحسب بل البشرية جمعاء، ومعلوم أن خيرات الحضارة اليونانية القديمة كادت تقتصر على ما هو فكري من المنجزات الإنسانية، فسطوة أثينا في وجدان البشرية ظلت فكرية وليست عسكرية أو حتى معمارية كما هو الحال مع حضارات أخري كالرومانية المجاورة والمصرية القديمة (المجاورة أيضاً؟)، فمقابل يوليوس قيصر في روما رمزاً للفتوحات الرومانية سياسياً وعسكرياً والأهرامات في مصر رمزاً للعجائب المعمارية لا تزال المعجزة اليونانية لا تتعدّى تقريباً أسماء كسقراط وأفلاطون وأرسطو وأمثالهم من المفكرين والفلاسفة والشعراء، وليس ذلك بقليل، بل ربما كان هو الأبقي على نطاق التأثير الذي هو غاية كل حضارة غابرة ولاحقة.
قبل نحو مائة عام قال أحمد شوقي الشاعر صاحب المنزلة السامية احتفالاً بالعلم والمعلم: “علَّمتَ يوناناً ومصرَ فزالتا ** عن كل شمسٍ ما تُريد أُفولا، واليومَ أَصبحتا بحالِ طُفولةٍ ** في العلمِ تلتمسانِه تطفيلا، من مَشرِقِ الأَرض الشموسُ تظاهَرتْ ** ما بالُ مغربِها عليه أُديلا؟”. وذهب صمويل هنتنقتون صاحب “صدام الحضارات” قبل نحو عشرين عاماً إلى أن الغرب يشمل دول أوربا الغربية وأمريكا الشمالية عدا المكسيك وأستراليا ونيوزيلاندا وغينيا الجديدة، ويذكر نيال فرغسون أستاذ التاريخ بهارفارد أن زميلاً له تلعثم حين فاجأه بالسؤال: “هل أمريكا اللاتينية من الغرب؟
“.
“.
ولكن ماذا عن اليونان؟، بحسب أحمد شوقي هي صنو لمصر من حيث بزوغ شمس الحضارة من الشرق بريادة البلدين العريقين، ولا ينصرف شوقي إلى التمييز بين ضرب وآخر من ضروب الحضارة على نحو ما ذهبنا أول هذا الحديث، فالمنجزات الفكرية والمعمارية عنده سواء حتى إذا رأى الفراعنة أن يبقوا أسباب تفوقهم الحضاري أسراراً لا تكشف عنها سوى روعة المنتج الأخير ممثلاً في التحف الأثرية الخالدة، بل ويجعلون اللعنة المحفوفة بالغرائب والأساطير جزاءً لمن تسوِّل له نفسه محاولة الوقوف على بعض تلك الأسرار لفكها وإذاعتها على الناس. أما هنتنقتون فيذكر أوربا الغربية مجملاً ولا أظن أن أحداً من المشمولين بذلك الوصف يستنكف أن ينتسب اليونانيون إليه، هذا إذا لم يكن العكس هو الصحيح، فالواقع أن اللاتينية هي لسان الأم الذي تفرّعت عنه اللغات الأوربية، واللسان الذي لا تزال تــُـنسب إليه المصطلحات المعرفية في العلوم والآداب على اختلافها في الغرب، واللسان الذي تستجير به أوربا الموحدة لنحت المصطلحات والأسماء الجامعة نأياً عن التحيز للغة دون أخرى من لغات الدول الأعضاء والتي باتت تشمل مؤخراً غير قليل من الدول مما لم يحب هنتنقتون أن يدرجه في أطلسه المعرِّف بالغرب.
وإذا كان الغرب – الأروبي تحديداً – لا يتحرّج من الممايزة (جداً وهزلاً) بين واحدة وأخرى من دوله على صعيد الإجادة في المنجز التقني الحديث، فإن من بين الدول المتهكَّم منها إيطاليا على سبيل المثال عندما يكون الطرف المتباهي هو ألمانيا المجاورة، ويكون موضع المقارنة آلة كهربائية أو جهازاً إلكترونياً دقيق الصنع، أو حتى نتائج الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية يتأخر الإيطاليون في الفراغ منها يوماً أو بعض يوم وتقذف بها “الماكينة الألمانية” إلى وسائل الإعلام في الوقت المحدّد سلفاً بالدقيقة والثانية.
غير أن اليونان مسألة أخرى تماماً في هذا السياق، فالفارق بينها وبين أيٍّ من دول أوربا الغربية المعنية بتمييز هنتنقتون ليس مما يقاس بيوم أو يومين في إذاعة نتائج انتخابات من أي قبيل، ولا ببضع سنوات من العمر الافتراضي لآلة كهربائية أو جهاز إلكتروني، فتخلُّف أحفاد كهنة الفلسفة الهيلينية عن ركب الحضارة الغربية المادية، بل والفكرية، الحديثة مما بات يقاس بعشرات السنين وأكثر لولا حنين أبناء العمومة من الممسكين بريادة الحضارة الغربية الحديثة لأصولهم الفكرية وحنانهم على الورثة البيولوجيين لتلك الأصول، مما يحدو باستمرار إلى التغاضي عن التخلف اليوناني على كل صعيد، بل ومدّ يد العون الصادقة والحانية لانتشاله من كل ملمّة.
هكذا تبدو اليونان كما لو كانت عضو شرف في اتحاد أوربي لا تزال تركيا المجاورة تفعل المستحيل لأجل الانضمام إليه فتظل في أفضل أحوال الانتساب الصوري عضواً منبوذاً، أمّا الانتساب الفعلي فهيهات.. على الأقل في الأمد المنظور، وليس من أسباب عملية للرفض الأوربي لتركيا أفضل من مخاوف عقدية لا يُلام عليها الغرب الأوربي على كل حال إذا كان مناط العضوية في الاتحاد المشتهى العقائد الفكرية وليس الجوار الجغرافي والمنجز الحضاري على الصعيد العملي فحسب.
ولكن ماذا فعلت العولمة بالملف اليوناني في دول الاتحاد الأوربي ومن قبلُ باليونان بوصفها عضواً في “الغرب” بحسب تصنيف صمويل هنتنقتون؟. الأرجح لا شيء مميزاً، فإذا كانت العولمة قد سلّطت الأضواء الكاشفة على الفارق التقني والفكري المذهل بين اليونان ورصيفاتها من دول الغرب في أوربا، فإنها في المقابل منحت اليونان شرف اقتسام خيرات العولمة العابرة للقارات دون الحاجة إلى عبور قارة أو محيط، فإذا قصرت أخلاق اليونانيين في العمل عن أن تسمو إلى النموذج الغربي الصميم فإن الشراكة العولمية في الاستهلاك وما تتبعه من أسواق (طفيلية؟) قد شملت أحفاد أرسطو وأفلاطون وسقراط بالمنفعة.. مرة على قاعدة الجار أولى بالشفعة ومرات على مبدأ الأقربون أولى بالمعروف.
______
*كاتب من السودان
صحيفة”السوداني”