شاعرية العلم.. القوّة الكامنة


*جمال جمعة

يكشف جاك كيربي، مبدع أحد أبطال قصص الكوميكس المصورة (هالك Hulk) الذي تحولت قصته الى فلم بجزءين، عن استيحائه لشخصية العملاق الأخضر من مصادفة لحادث شاهد فيه امرأة تحاول رفع سيارة لإخراج طفلها المحشور أسفلها. يقول كيربي إن تلك المرأة، عند وقوع الحادث، لم تصرخ ولم تولول بل هرولت بسرعة نحو السيارة ثم، وبكل عزم، رفعت الجزء الخلفي منها لتنقذ طفلها من الموت!

تحوَّل الحادث الحقيقي في مخيلة الكاتب الى قصة عن عالِم شاب يعمل في قاعدة عسكرية صحراوية تابعة للجيش الأمريكي يتعرض فيها لأشعة “غاما” أثناء محاولته إنقاذ مراهق طائش دخل في موقع اختبار القنبلة فيتحول الى وحش أخضر، عملاق يتحكّم به الغضب.
تبدو القصة، ثقافياً، وكأنها أليفة إلينا، فهنالك امتداد طويل لها في أعمال روائية كلاسيكية معروفة مثل (فرانكشتاين، ماري شيللي) أو (دكتور جيكل ومستر هايد، روبرت لويس ستيفنسون)، والى حد ما (صورة دوريان غراي، أوسكار وايلد).
يتغير، في قصص الكوميكس الخيالية جلد “هلك” الى العديد من الألوان المختلفة، تتدرج من الرمادي المعتم إلى الأخضر وتنتفخ عضلاته مانحة إيّاه قوة جبارة لم يك يحوزها قبلاً، فهل من الممكن حدوث مثل ذلك في الطبيعة فعلاً؟ أحد المختصين بما يُعرف الان “فيزياء الجبابرة”، يؤكد قدرة الإنسان، في أوقات الاجهاد، على القيام بإنجازات بطولية في مجال تحديات القوة، ويعزو ذلك الى إطلاق هورمونات معينة إلى الجسم، مثل “الأدرينالين” أو “التيستوستيرون”، اللذين يمكنهما أن يزيدا من جريان الدم داخل الجسم ورفع مستويات الأوكسجين لتوفير الطاقة للعضلات، ومع مرور فترة الزمن يمكن أن يزيدا من حجم العضلات. كما أن هنالك مواداً كيمياوية أخرى، تدعى “الأندورفينات” يمكنها أن تحجب الألم الذي قد يسببه التمدد المبالغ به لتلك العضلات، والذي يتيح للكائن بسط جسمه خارج حدوده الطبيعية. ويستعمل بعض الرياضيين مثل هذه المواد الكيمياوية لتحسين أدائهم أحياناً، مما قد يسبب لهم آثاراً جانبية ومضاعفات مثل زيادة الوزن، الكآبة، والنوبات العدوانية الخارجة عن السيطرة، مثل “هلك” تماماً. ومع أن تغيرات لون “هلك” الاستثنائية لا يمكن تفسيرها بتناول المنشطات بقدر ما تشابه أسلوب بعض الحيوانات في التكيف مع الطبيعة كالحَبّار والحرباوات التي تستعمل خلايا لونية خاصة لتغيير مظاهرها، حيث يمكنها أن تنتج ألواناً مختلفة في جلدها بوساطة وسائل طبيعية أو كيميائية. كما يمكن لشعيراتها المجهرية وحراشفها أن تعكس ضوء لون معين كما تعكس حافات القرص المدمج ألوان قوس القزح.
هنالك حيوانات أخرى تحتوي على ثاني كرومات الصوديوم أو البوتاسيوم، وهي مواد صبغية كيمياوية طبيعية تمتص بعض الألوان إلاّ أنها تعكس ألواناً أخرى. فعلى سبيل المثال، إذا امتصت الكرومات ضوءً أزرق وأخضر فقط، فسيبدو الحيوان أحمر. وتحتوي هذه الكرومات على ما يعرف بالخلايا الملونة، التي يمكن لحيوان مثل الحبّار أن يعالجها كما يشتهي. وكل خلية من هذه الخلايا محاطة بعضلة تقوم بعصر صبغات الكرومات ودفعها نحو سطح الجلد، لذلك فبإمكان حيوان الحبّار أن يقوم بتغيير الخلايا اللونية المختلفة من لون الى آخر، بل وحتى تكوين نقوش لونية متحركة على جسمه. التكيف مع أقسى الظروف لمواصلة الحياة أحد ألغاز الطبيعة، والتقرير الذي أصدرته منظمة الصحة العالمية مؤخراً معبرة فيه عن دهشتها لمقدرة العراقيين على التكيف مع سنوات إراقة الدماء قد لا يبدو مفاجئاً سوى لهم.
إنها قوة الطبيعة الكامنة التي تجعل من النبتة الرقيقة تشقّ الاسفلت بحثاً عن الضوء، معلنة وبتصميم أكيد لا يمكن لأية قوى خارجية عاتية أن تثنيه، عن رغبتها بمواصلة الحياة تحت وطأة أية ظروف كانت، مثل العراقيين تماماً.
__________
*• أستاذ الأدب العربي في جامعة فيلنيوس، ليتوانيا(العالم)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *