عائشة سلطان *
في سردها التفصيلي المملوء بالذكريات والحنين، تروي الفنانة التشكيلية العمانية نادرة محمود سيرتها الحياتية وتنقلها بين العواصم العربية، سعياً للعلم والتعلم سنوات السبعينيات، حين لم يكن في بلدها عمان أي مدارس للبنات، ليس سوى مدرسة واحدة، كما تقول هي المدرسة السعيدية «خاصة بالذكور» عدا ذلك فلا ثانويات ولا جامعات ولا تعليم أبداً، كانت عمان حسب وصفها مسورة بسور، وكانت بداية نادرة مع التعليم في العراق، العراق كان حاضرة من حواضر العرب المزدهرة بالعلم والجامعات والعلماء والمجلات والمشاهير كما كان دوماً، وهذه إشارة تبعث الغصة فعلاً على حال العراق اليوم، الذي عاد قروناً للخلف والتخلف؛ لأن أيادي خفية وغادرة تريده متخلفاً، فقيراً، ومتدهوراً يعج بالعنف وتفوح منه رائحة الدم والموت ويصدر الإرهاب بدل النفط والتمر والشعر والعلماء!
عن حياتها وأسرتها في بغداد، تروي الفنانة العمانية تفاصيل البيت والمكان والطريق للمدرسة المختلطة بصحبة أشقائها فتقول «كان اسمها المدرسة النموذجية، وكنت أذهب إليها مشياً على الأقدام مع اثنين من إخواني، كانت تجربة الاختلاط شيئاً عادياً، كان أهلي متفتحين على العالم، بل حتى المحيطون بنا من الجيران والأصدقاء كانوا متنورين، وعندما أسمع اليوم بعض الأفكار والسجالات التي لا جدوى منها أرى أن الوعي الاجتماعي في سبعينيات القرن الماضي كان ضارباً في التنوير والانفتاح!».
عن تجربة الدراسة الجامعية في بيروت، تحكي نادرة محمود «.. في بيروت كانوا يعطوننا برنامجاً مكثفاً خاصاً بنا كطلاب عمانيين، كان البرنامج يشمل كل أمر يخطر على البال، برامج كشفية، رحلات، دروس في الطبخ والموسيقى ورقص الدبكة وكانوا يأخذوننا لزيارة مدارس الأيتام والمعاقين، كانت تلك المدارس في الجبل بين أشجار الصنوبر والكرز ورائحة الأعشاب البرية، في طريقنا إلى تلك المدارس كان السائق يضع لنا أغنيات فيروز ووديع الصافي وصباح، ولذلك فإن العودة إلى مسقط فترة الإجازة تشكل لنا كابوساً حقيقياً، وحدها الحرب الأهلية جعلتنا نهرب من بيروت محملين بكل تفاصيل الحياة الحلوة والزمن الجميل».
بعد عشرين عاماً، عادت نادرة إلى بيروت وإلى منطقة الحمرا والهورس شو، كان كل شيء محطماً ومهشماً، الشوارع، العمارات وحتى الناس، الحمرا كانت لا تزال تحتفظ بتفاصيلها إلا أن صور الخميني وحسن نصر الله تملأ الجدران، كان كل شيء قد تغير للأسف، المسارح، السينما والمقاهي، والمكتبات قد طالها الخراب بشكل قاتل، ومن بيروت إلى القاهرة ولندن ونيويورك ومدن أخرى تنقلت إليها الفنانة، حيث أثرت تجربتها وموهبتها وفنها، لكن تبقى تجربة بغداد هي الأغنى، فحين التقاها أحد أصدقائها قال لها مرة «لو أنك لم تقطني في العراق لما أصبحت فنانة، وقد أكدت كلامه حين كتبت في سيرتها (كان كلامه صحيحاً)».
حين نكتب سيرتنا الذاتية بصدق وبتفصيل كامل، أو حتى حين نخلطها بشيء من الخيال تفرضه اللغة أو الهواجس، فإن الحنين غالباً ما يقودنا إلى أجمل المخابئ ، وغالباً ما يروي الفنانون والأدباء عن بغداد وبيروت والقاهرة صوراً تجعل أجيالاً لا حصر لها تتمنى أنها لو عاشت ذلك الزمن، الزمن الجميل، العفي، الأخضر الطازج، الذي تنبعث منه روائح عشب وياسمين وألوان بيضاء، روائح نظافة وشغف وتوق وبساطة وتحضر، رغم الفقر وقلة ذات اليد، «تروي في سيرتها كيف أن العمانيات في تلك السنوات البعيدة، حيث لا تعليم ولا مدارس كن يرتدين اللون ويتعطرن بالحرية ويتبخترن كفراشات وورود (نسبة للألوان الحارة الصارخة للملابس العمانية قياسا بالسواد الذي تتسربل فيه النساء اليوم»)!
أحببت هذه السيرة كثيراً، وبودي لو أن مجلة ثقافات الإلكترونية تضع هذا الكتاب بين أيدي القراء فهو من أجمل ما قرأت.
– الاتحاد
* أديبة وإعلامية من الإمارات