*عبدالله الرشيد
“بالنسبة لي.. لقد فاض الكيل فيما يتعلّق بالجاذبية الجنسية، لماذا أستسلم لكل هذه القيود بسببها؟!”، ضربتْ الباب بعنف وخرجت الناشطة الفرنسية “تيراوني دي مسيريكوتري” (1817م) إلى الساحة العامة، ارتدت ملابس الفرسان، وصرخت أمام مجموعة من النساء :”حان الوقت لأن نتخلص من خمولنا المخزي الذي سجننا فيه الجهل، وظلم الرجال.. فلنعد إلى ذلك الزمان الذي كانت فيه أمهاتنا يحاربن بجانب الرجال، ويتحدثن في المنتديات العامة”. يهتف رجل متجهم من بين الجموع :”ما هذا… إنها تنتهك قانون الطبيعة، فالبيت هو مكان المرأة”.
لو استمعنا إلى حوار تقليدي يجري بين طرفين، الأول (أ) يرفض أن تخرج المرأة للعمل، أو أن تقود السيارة، أو أن تختلط مع الرجال، والطرف الثاني (ب) يؤمن بهذا الشيء كحق طبيعي لها مثلها مثل شريكها الرجل، ماذا ستكون حجة (أ)؟ في كل الحالات أو أغلبها هو – أو هي- سيبرر موقفه بحجتين: الأولى بأن خروج المرأة يعني تحقق الفتنة والإلهاء، ومدعاة لانتشار الفساد والفحشاء (كما كانت تتبرم تيراوني وتقول: تبًا للجاذبية الجنسية)، والحجة الثانية أن مكان المرأة الطبيعي هو البيت (كما كان يهتف ذلك الرجل المتجهم من بين الجموع) .
فباسم الفتنة وقدسية بقائها في البيت حجبت المرأة قرونا عديدة في منزلها، وغيبت عن الفضاء العام، وأصبح ذلك ثقافة عامة سائدة متوارثة تكررها النساء أحيانًا قبل الرجال.
فهل كان فرض القيود على المرأة وعلى تحركاتها دافعه الأساسي هو الحد من “الفتنة” وتقليص انتشار “الجاذبية الجنسية” بين المجتمع؟! أم أن ذلك هو عرض من أعراض قيمة متأصلة في ثقافة المجتمعات (ما قبل المدنية) أيًّا كانت هذه المجتمعات، التي مرت بذات الطور، وبذات النقاشات في يوم مضى؟!.
مفهوم “الفتنة” الذي باسمه تنشأ كل هذه القيود المقننة، إذا تفحصناه وتأملناه سنجده مفهوم هلامي غير واضح المعالم الذي لا يمكن إطلاقه بالعموم، ووصفه كحالة ثابتة تسري سريانًا مطردًا باختلاف الزمن والجنس.
فكيف ألصق مفهوم الفتنة فقط بالأنثى، وتحملت هي تبعاته ووزره لوحدها، في حين أن من الطبيعي والبديهي أنه مفهوم وحالة متبادلة بين الجنسين، وما يجري فيه على الأنثى يجري على الذكر وبالضرورة، فطبيعة الكون تبادلية تكاملية، لابد أن يفتن كل نوع بالآخر حتى يستمر بقاء الجنس ككل، فلماذا إذن تحملت “الأنثى” تبعات وأعباء هذا المفهوم، وأفلت منها الرجل؟! لماذا لوحقت المرأة بالحجب، والستر والتغطية، بينما كانت تلك الصفات مثارًا لتباهي الرجل وفخره وخيلائه؟!
ومن ناحية أخرى لا يماري أحد في أنه – أي الفتنة – مفهوم نسبي، لا يتساوى الجميع في حمل مكوناته، وهذه هي طبيعة البشر المختلفين، فلماذا إذن يعاقب نوع بأكمله ويقيد كله بقيود واحدة متساوية لأجل أمر هم فيه مفترقون متفاوتون؟! (إذا استثنينا الحرج المرفوع عن القواعد من النساء).
أتذكر مفتيًا عربيًّا أراد أن يكون عادلاً في هذه المسألة، سأله المذيع مستفتيًا: “شيخنا الفاضل.. في حجاب المرأة هل يجب عليها أن تغطي وجهها؟ فأجاب الشيخ من فوره: “تغطية الوجه سنة، أما الحجاب الواجب فهو أن تغطي المرأة شعرها!”، لم يرض المذيع بهذه الإجابة، فأعاد السؤال وقال: “ماذا لو كانت جميلة وفاتنة؟”، صمت الشيخ برهة وقال: “إن كانت جميلة، جمالها عشرة على عشرة فتغطية وجهها واجب، أما إن كان جمالها خمسة على عشرة فتغطية وجهها سنة. والله أعلم”.
هذه العقلية وأشباهها تؤكد أن مفهوم (الفتنة) كمنطلق تعليلي، هو مفهوم زلق متحرك، على الرغم من وجوده كحالة وقيمة عامة، لكنه نسبي إلى درجة لا يمكن الإمساك به واطراده، ومن ثم فإنه لا يصمد كأرضية مستقرة تبنى عليها إجراءات وأحكام مقننة واحدة وثابتة زمنيًّا أو مكانيًّا.
المفارقة تكمن في أن أحكامه تكون فاعلة وناجزة حين يتعلق الأمر بـ(الفتنة المستقيمة)، على الرغم من أنها الحدث الطبيعي السائد بين الناس، لكنها تتوقف تحتار وترتبك ولا تجد حلاً، حين يتعلق الأمر بـ(الفتنة المنحرفة/المنبوذة) كالتي تحدث بين الذكور أنفسهم، أو بين الإناث، فتجد نفسها مضطرة إلى الإقرار بها، ومعالجتها بالتوعية والمراقبة دون أي حجب أو قيد (ماعدا بعض المهووسين الذين حرموا أن يجلس الأب مع ابنته خوفًا من الفتنة)، في حين أن هذا المنطق يغيب تمامًا مع (حالة الفتنة الطبيعية)، ويكون العلاج الأوحد الأشمل هو التقييد والحجب والمنع!
لماذا؟!
نفهم الجواب، وتنتظم لنا جزئيات الصورة حين نعود إلى جذور تشكلها في العقلية العربية الأولى، حيث الرجل/الذكر، بطبيعته هو صاحب القوة الجسدية، و(من يملك القوة، يملك السلطة)، فأصبح الفضاء العام تحت سلطته، هو يقسمه ويجزئه، ويحدد شروط الظهور فيه، كان وجود ذلك “الجنس الآخر”، سيعني تشتيتًا وإلهاءً لمجتمع “الرجل” المسيطر على هذا الفضاء، وربما قد يشكل تهديدًا وخطرًا على امتيازاته وسلطاته.
هذه “الأنثى” اجتمع فيها النقيضان، هو يرغب فيها، ويخاف منها، كيف يعالج الأمر إلا من خلال عزلها عن الفضاء العام، ووضع العراقيل الدائمة أمام محاولتها للخروج، والتأكيد لها بقدسية بقائها في البيت، وإن اضطرت للخروج للفضاء العام فإن عليها الالتزام بقائمة طويلة من الشروط يجعل من خروجها محصورًا مقيدًا، مشوهًا مجردًا من أي علامات الحياة، فعليها حين تخرج من بيتها “أن تتخذ صفات الأموات” (الغزالي/الإحياء)، وعلى زوجها أشد الواجبات في منعها من ذلك الخروج، “فمن كانت له زوجة تخرج وتتصرف في حوائجها بادية الوجه والأطراف لا تجوز إمامته، ولا تقبل شهادته، ولم يزل في غضب الله مادام مصرًّا على ذلك”. (المجيلدي/كتاب التيسير)، فالمرأة “مأمورة بالقرارة في البيت، ممنوعة من الخروج، وعليها أن تكون مهيئة نفسها لبساط الزوج..” (ابن كثير/التفسير)، وهكذا يقضي الرجل على مخاطر خروجها ومزاحمتها له، ويؤمن سلطته عليها، ورغبته منها.
ولأن الرجل في ذلك المجتمع القديم يعلم أن المرأة المملوكة/ الجارية، لاتشكل خطرًا على سلطته، فدرجتها في أقل المراتب، ووجودها يشكل إلهاءً مرغوبًا للرجل، فتصرفاتها وطيشها ولعبها ليس محسوبًا عليه، فهي تباع وتشترى، ويمكن أن تُلمس وتُجس، في صورة واضحة تمامًا تؤكد أن الأمر يتمحور ويدور دورانًا كاملاً حول “السلطة”، فسقط معيار “الفتنة”، وأصبحت عورتها كعورة الرجال، فأفلتت من القاعدة الكلية العامة بأن “المرأة عورة”، بل أصبحت “عورة الأمَة، ما بين السرة والركبة كالرجل” (المرداوي/الإنصاف)، ووجب عليها أن تخرج للفضاء العام للعمل والخدمة، “فمن كانت له جارية نصرانية، وجب عليها أن تخرج لخدمته، وتخرج تشتري هي لنفسها زنارًا”(السيوطي/نزهة المتأمل)، بل وتمنع من لبس الحجاب –وإن كانت مسلمة-، وبعضهم كان يضربها حين تلبسه، ويقول لها:”هذا الحجاب إنما هو للحرائر”!.. الحرائر من يشكلن خطرًا، ويستحققن الحماية.
تمر هذه التأملات أمامي، وأنا أشاهد الجدل والنقاش المحموم، القديم الجديد، المتأخر المتكرر في السعودية حول حق المرأة في قيادة السيارة، حول حقها في الخروج إلى الفضاء العام بذاتها دون أن يقودها رجل، سواء كان هذا الرجل أصيلاً أم مستوردًا…
إنها قصة طويلة.. الصراع الكلاسيكي بين المرأة والرجل هو سمة طبيعة لازمه لتاريخ المجتمعات وتطورها، إنها تعني حالة حركة دائمة وتدافع مستمر لإيجاد صيغة للعيش المشترك بين الطرفين، يتم بناءً عليه تحديد مساحة مرضية لسلطات كل طرف منهما.
هذا الصراع لم يكن يومًا محصورًا بمجتمع أو أمَّة بعينها، إنها قصة تكاد تكون متكررة ومتشابهة في حالات تصل إلى حد التطابق في المجتمعات التي صارعت من أجل تطور حقوق الإنسان وتقدمه وتواصله الطبيعي مع من حوله، في ظل محاولته الحثيثة لاكتشاف ذاته، والصيغة المثلى التي تحقق توازنه واستقراره مع الطبيعة، فهو لا يستطيع العيش إلا بصورة تكاملية مع كل العناصر الأخرى التي تشاركه العيش على هذه البسيطة، ومع ذلك هذا الإنسان –كعادته- لايصل إلى القناعة بالعيش “المتكامل/ المتبادل” بسلام يحفظ توازنه ووجوده إلا حين يخوض كمًّا طويلاً من الصراعات المرهقة التي تجعله يتوقف في لحظة ما، ويرمي عصا المعركة، ويقرر أن الحل لن يتحقق إلا حين يتصالح مع نفسه!.
_________
*أكاديمي وإعلامي سعودي
مجلة(المجلة)