د. شهلا العجيلي *
في جلسة مسائيّة مع أصدقاء على هامش أحد المؤتمرات النقديّة، طُرح سؤال حول سبب توهّج الكتابة النسويّة العربيّة،في هذه المرحلة، بل توهّج كتابة المرأة العربيّة بعامّة، وصعودها في مسار مخالف لحركة الثقافة العربيّة النكوصيّة.
دارت مختلف التعليقات حول فكرة الوقت التاريخيّ الذي توافر للمرأة لتفكّر جيّداً! وبما أنّني لا أحبّذ الإجابات الارتجاليّة السريعة عن مثل هذه القضايا التي تبقى إشكاليّة، وفّرت كلامي لأكتبه في مقال.
لعلّها ملاحظة تستحقّ التوقّف عندها، نظراً لأنني قرأت خلال السنة الفائتة تحديداً، أعمالاً روائيّة عديدة مهمّة، وناجحة في حرفتها، أي في روائيّتها، ومتنوّعة، بحيث لاتؤطّرها الأفكار النسويّة التي صارت أصيلة في عرف الموجة الثانية للحركة النسويّة، إذ لم تعد المرأة مشغولة بجسدها فحسب، ولم تعد مشغولة بالمساواة مع الرجل فحسب، أقول: فحسب، بل باتت تحمل على عاتقها قضايا المجتمع بعامّة، فضلاً عن قضيّتها الجندريّة الخاصّة، التي قد تكون نقطة قوّة مثلما يراها البعض نقطة ضعف. ومن الديالكتيك بين هذين النوعين من القضايا، تتأتّى ديناميكيّة كتابة النساء، اللّواتي يشاركن الآخر، ويتساوين معه في حقّهنّ، وقدرتهنّ على التعبير، والمشاركة في القضايا جميعها، وينفردن في الوقت ذاته بقضيّتهنّ الخاصّة.
قد يحتكر الرجل جوانب في المجتمع، لكنّه لا يستطيع احتكار الكتابة عنها، في حين يمكن للمرأة أن تحتكر الكتابة عن قضيّتها، من غير أن ينافسها الرجل على ذلك، في حين تنافسه هي في الكتابة عن القضايا الأخرى برمّتها. لقد صارت المرأة مزدوجة الانتماء، فهي ترتدي بزّة رجال الأعمال، ولا تنسى أن تحمل في حقيبتها أحمر الشفاه، وهذا السعي وراء الكونيّة هو جزء من سعيها نحو الكمال، لذلك تجدها مرهقة، ومهمومة، لكنّها من الداخل سعيدة، ألم يقل الشاعر:
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام!
تعود رغبة المرأة في امتلاك العالم إلى تعويض حرمانها التاريخيّ، لا إلى الانتقام.فما لم تستطع أن تقوم به جدّتها، وأمها، وعائلتها الأنثروبولوجيّة- الثقافيّة، وما لم يتوافر لتلك العائلة، توافر لها في هذه المرحلة من سيرورة الأنظمة الاجتماعيّة- الثقافيّة، لذا تريد ألاّ تفوّت على جنسها هذه الفرصة، فالتهميش التاريخيّ مصدر ثري للطاقة الإبداعيّة، وللإنجاز،لذا نجدها تجاوزت في طموحها فكرة التعليم إلى الثقافة والمعرفة.
لقد تطوّر وعي المرأة مع تطوّر وعي المجتمعات، وعرفت مخطّط لعبة السيطرة: (القوّة، والثروة، والمعرفة)، أقصت الأولى بسبب ذكوريّة المجتمعات التي تكون فيها المرأة أضعف بدنيّاً، مثلما أقصت الثروة للسبب ذاته، فامتلاك الثروة غالباً يدخل في علاقة طرديّة مع القوّة. لذا لم يعد أمامها سوى خيار المعرفة، التي يمكن تحصيلها من غير قوّة أو ثراء، ولاسيّما في هذه المرحلة من تاريخ البشريّة.
مع امتلاك المعرفة، بطريقة أو بأخرى، تمكّنت المرأة من أن تتحوّل من موقع أداتيّ إلى موقع الفاعليّة والتأثير في الميادين جميعاً، حتّى صارت نموذجاً ثقافيّاً في كثير من البنى الاجتماعيّة، وتحوّلت إلى صانعة رأي، ومع ذلك ثابرت على امتلاك قضيّتها بكلّ متعلّقاتها وعقابيلها، من وصاية، وحضانة، وإرث.. تلك القضيّة التي لن تجد سبيلاً إلى الحلّ، إلاّ إذا عادت السياسة إلى الأخلاق، وهذا ضرب من المستحيل!
يتّفق علماء الجنوسة على أنّ قدرة المرأة على كسب معاركها تتأتّى من كونها أقلّ عدوانيّة، وأميل لتحليل المعلومات الحسيّة والشفهيّة، وأقلّ رغبة في المخاطرة، وأكثر طلاقة فكريّة. لقد دخلت المرأة العربيّة في الألفيّة الثالثة عالم الأعمال بقوّة، لكنّ عالم الأعمال لن يثنيها عن امتلاك المعرفة، الذي هو الخيار الوحيد لتواجه القوّة والثروة،إنّها تسعى نحو المعرفة من غير أن تتنازل عن أنوثتها، لذلك تمسك القلم بيد، وباليد ذاتها تضع السوار، كناية عن أنوثتها، واختلافها. لقد صنعت المرأة من الأنوثة معرفة، وجعلت من قضيّتها مبحثاً علميّاً واسعاً، اجتماعيّاً، وسياسيّاً، وأخلاقيّاً، وفلسفيّاً، وأدبيّاً، فضلاً عن كونه طبيّاً!
لا تعرف المرأة الاستسلام، لأنّها تؤمن بفكرة الواجب، وفكرة الواجب لا تنفصل عن فكرة الحقّ، والفكرتان تعنيان المواطنة. تقوم المرأة بواجباتها، التي يحبّ بعض أن يسمّيها أعباء، واعية أنّها من غير واجبات لن تكون مواطنة، وللسبب ذاته تطالب بحقوقها، إنّها لا تستسلم للإنفلونزا التي تقعد الرجل في السرير أيّاماً، مثلما لا تستسلم لسرطان الثدي، لأنّ عليها أن تهتمّ بالعائلة، وبالأطفال، وبواجباتهم، وبمدارسهم، وبنشاطاتهم، وبالزوج، وبالعمل، إنّها لا تريد أن تخسر أيّ مكسب، فأيّ تقصير، بالنسبة إليها، هو خطوة إلى الوراء.
لقد انعكس ذلك التحوّل في موقع المرأة، من أداة إلى صانعة رأي، على كتابتها، فاتخذت استراتيجيّة مغايرة لاستراتيجيّة الحمل الوديع، أو النمر المفترس، لعلّها استراتيجيّة الثعلب الصامت، بل الكامن، فقد راحت تكتب بعيداً عن الصخب، وتحديداً صخب المراحل السابقة، المفعم بتحدّي التابو، أوتحدّي الآخر، أو غيرهما من الممارسات التي تشير إلى تخبّط، أو عدم شعور بالأمان. إنّها تحقّق، نسبيّاً، ما تريده بهدوء، ما دامت قد أدركت قواعد اللّعبة، فلماذا الصخب!؟
لعلّ ما جعلني أصل إلى هذه الأفكار هو التطوّر، والتنوّع، والاختلاف، الذي وجدته في نصوص النساء الكاتبات، اللواتي سأبدأ بالتعريف بنصوصهنّ في الأيّام القادمة إن شاء الله.
( الجزيرة نت )