مع القاصة والباحثة السعودية سهام العبودي


حاورها: نبيل درغوث

( ثقافات )

سهام العبودي قاصة وباحثة سعودية متخصصة في الأدب العربي الحديث محاضرة بجامعة الرياض للبنات 
عضوة تحرير مجلة “مداد الأدبية” الصادرة عن كلية التربية للبنات بالرياض. عضوة الجمعية العلمية 
السعودية للغة العربية.
ترى سهام العبودي أن الكتابة هي ضربة استباقية ضد النسيان و رغم اكتساح جنس الرواية كتابة
و قراءة في السعودية فهي ترى أن القصة القصيرة جدا هي أجلى ملامح السرد السعودي.
ومن بين إصداراتها
مجموعة قصصية بعنوان “خيط ضوء يستدق”-الأردن 2004
مجموعة قصصية بعنوان “ظلّ الفراغ”- السعودية 2009
• القصة القصيرة العربية تطورت تطورًا ملحوظًا على المستوى التقني والأسلوبي الخ… فهل استطاعت القصة القصيرة العربية الإجابة عن أسئلة الراهن العربي؟
القصة القصيرة مجتهدة جدًّا، لكنَّ الراهن العربي يضع أسئلة معجزة..! أظنُّ أن كلَّ كاتب يدَّعي أنَّه يكتب للحياة؛ يصنع نماذجه المثاليَّة، أو ينتقد بعض وجوه واقعه، غير أنَّنا نقع على مسافة بعيدة جدًّا من جعل الأدب عامَّة، أو القصة القصيرة خاصة إحدى طرق خلاصنا، أو وسيلة من وسائل قتل حيرتنا، الراهن العربي – بكلِّ ما فيه – يمسُّ حياة الناس بمختلف مستوياتهم، بينما يمسُّ الأدب حياة خاصَّته ومريديه، صحيح أن القصَّة قد بلغت مرحلة نضج لافت، لكن حتى مع افتراض أن هذه النصوص الناضجة قد مسَّت قضايا الراهن، وعرَّتها، وقدَّمت حلولها الناجعة، فهل سيجدي الأمر نفعًا إن لم تكن القصَّة القصيرة قد أخذت مساحتها اللائقة في التلقي والاهتمام؟!
• أنت من الباحثات المشتغلات على المدونة القصصية السعودية فما هي أهم ملامح القصة السعودية الآن؟
عوامل عدَّة تشكِّل ملامح القصَّة السعوديَّة اليوم، هناك التفات للإبداع السردي عمومًا، وهناك صوتٌ شبابي طاغٍ داخل هذا الإبداع، الصوت الشاب يحتفظ بميِّزة المجازفة والرغبة في التطوُّر والتجريب وهذا كفيل بأن ينزح بنا قليلاً عن رصيف الركود على مستوى الإبداع، أما الملامح التي يمكن تمييزها فتكمن في الوفرة السرديَّة، في وجود أصوات تبحث لنفسها عن مكان وسط هذه الوفرة، وهذا البحث هو ما يجعلني متفائلة بمستقبل القصة القصيرة؛ كلُّ من يبحث لقدمه الإبداعيَّة عن مكان في طريق السرد يعلم أن القدم لن تكون راسخة ما لم تصنع خطوة فريدة تزيح الزحام حولها، وتضمن لها المساحة الخاصة التي تمكِّن الآخرين من رؤيتها بوضوح، “التنافسيَّة” عامل إنضاج مهم، الجو المشحون بالإبداع جوٌّ معدٍ، ومحفـِّزٌ ولا شك.
هذا الجوُّ المحفـِّز هو الذي يصنع صورة القـصَّة القصيرة الآن؛ هو الذي نشَّط التجريب، والانفتاح على البنيات الجديدة في القص، كالقصِّ القصير جدًّا وهو أجلى ملامح القصَّة السعوديَّة اليوم، هناك أيضًا البنيات الجديدة، والمضامين التي تصعد مع سقف حيرة الإنسان، وقلقه المعاصر، وهمومه اليوميَّة. 
بقي أن أقول إنَّه إن كان ثمة صعوبة تعانيها القصَّة اليوم في السعوديَّة فإنَّها – على الأرجح – حالة تصارعها مع منافسها السردي: “الرواية”، أحيانًا تبدو القصَّة القصيرة كما لو كانت فنًّا مندسًّا لا يرتقي إلى شعبيَّة الرواية الجارفة التي تحظى بها الآن، ينتظر كثير من المتلقين اليوم من كاتب القصة أن يكتب رواية؛ هناك افتراض – يكاد يصبح قاعدة – يحيل إلى أنَّه إن كانت القصة “قصيرة” أو “صغيرة” أو أي وصف يقتضي مفهوم القلَّة أو الصغر فإنَّه بالضرورة سينتهي إلى مفهوم الاكتمال في مرحلة الرواية.. هذا الافتراض – مع صعوبته وتقليله من شأن القصَّة – ينبغي أن يدفع كتَّاب القصة إلى إحداث ثورة بيضاء تثبت فنيَّة هذا النوع السردي، واستقلاله، وتطرحه منافسًا قويًّا، وجديرًا باهتمام الجمهور العام الذي تشوِّشه تلك التصوُّرات. 

• كيف تقيمين مساهمتك في القصة القصيرة السعودية؟
حين يتجه أديب ما إلى الكتابة فإنَّ النظر إلى المساحة التي يشغلها ما سيكتبه في عالم الأدب هو آخر ما يرد إلى ذهنه، لحظة الكتابة يكون تركيز الكاتب منحصرًا في نقطة واحدة هي نقطة النص، النص ولا شيء سواه، ما وراء ذلك من الإنجازات تحدِّدها أمور خارج دائرة الأديب المبدع، لأن النصَّ يكون قد خرج من دائرة الإبداع إلى دائرة التلقي: الجمهور المتذوِّق، النقـَّاد، أقول هذا لأنَّ الكتابة – كما أراها – هي ضربة استباقيَّة ضد النسيان، هي تكوين ذاكرة ثابتة تُسند الذاكرة المتحرِّكة، ذاكرة العقل وحده – الذاكرة التي قد تضعف وتوهن وتتشاغل وتنقضي أو يصيبها العجز والخرَف – نحن نكتب لأنَّ الكتابة هي الأكثر أمانة في رواية التجارب التي كانت، والاحتفاظ بها طازجة كما كانت لحظة ميلادها بسعيها لإبعاد خلاصة التجارب عن تحديثات العقل المستمرَّة، واقتراحات الزمن المحتملة، وعوارض النسيان الآتية حتمًا، الكتابة هي الوجود الزمني الآني اللحظي المقبوض عليه كي لا يُجرم في حقِّه زمن لاحق، الكاتب المشغول بحفظ تجربته التي تتفلَّت سريعًا لن يسعه أن يلتفت لاحتمالات النجاح، لأنـَّه يقبض على لحظة خاطفة.. قد تمضي ولا تعود، وهذا الصدق والحيازة الكاملة للوعي الإبداعي لحظة الكتابة هو المساهمة الحقيقيَّة!
بالنسبة لما قدَّمته فلا أعدَّه أكثر من تجربة شخصٍ يمسُّ بطرف قدمه الماء كي يكتشف: أيَّ مغامرة هو مقبل على خوضها، مجموعتي الأولى لم تشتهر كثيرًا، لم تكن ضاربة قياسًا بالنتاج الأدبي الذي سبقها ولحقها، لكنني سعدت لأنَّ جمهورًا خاصًّا قرأني، استوعب ملامح الأفكار، وابتسم لها بهدوء، كتبت القصَّ التقليدي، وجرَّبت القصَّ القصير جدًّا، وأظنُّ أنَّني قلت شيئًا، كنت صوتًا مضفورًا مع أصوات عديدة ضمن مرحلة حيويَّة، مرحلة سأكون سعيدة بانتمائي إليها بكلِّ تأكيد.
• كيف تنظرين إلى مسألة الكتابة النسويَّة؟
أنا أقف ضدَّ هذه القسمة؛ الإبداع بالنسبة لي إبداع وحسب، بالحسبة المنطقيَّة المنصفة فإنَّ الأدب منذ أن ظهر، ومنذ أن مارسه الإنسان بأشكاله المختلفة ظهر مستندًا على الرجل، الإنجازات الأدبيَّة الكبرى: شعرًا، ونثرًا كانت ذكوريَّة، حين نفتِّش في الأسماء النسائيَّة المؤثرة نجدها قليلة، فهل سنضع الأدب النسوي في مقام نديَّة ومنافسة مع الأدب الذكوري – مع فارق الكمِّ والنوع الواضح -؟ هل سنجعله في مرتبة تالية؟ هل سنخترع نظامًا يتيح تداول هذا الأدب وقراءته وفق أطر نقديَّة خاصَّة؟ 
هذه التساؤلات تكشف كم تحجِّر هذه القسمة الأدب الذي تكتبه المرأة: تسوِّره بتلك النظرة النسقية التي تقتل الإبداع، وتحرم القارئ من متعة المفاجأة والاكتشاف..!

• ما هي النصوص الأدبية التي تأثرت بها سهام العبودي من الأدب العربي والعالمي؟
لم أقرأ لكاتب محدَّد،لم أسمِّ يومًا كاتبي المفضَّل، قرأت الأدب كثيرًا بحكم دراستي، وميولي، لكنَّ قراءة الأدب وحده لا تصنع أديبًا، الهواء الذي تتنفسه النصوص الأدبيَّة يأتي من كلِّ النوافذ المفتوحة: من التاريخ، والاجتماع، والسياسة، والدين، وحين أبحث في قراءاتي الأدبيَّة أجد الشعر في رأس القائمة، ولا يزال، وربما أثر ذلك على نوع الكتابة التي أمارسها، فجاءت لغة نصوصي القصصيَّة شديدة الاقتراب من لغة الشعر. أحبُّ النصوص التي تشتغل على الوجع الإنساني، أحب العين الأدبيَّة التي تلتقط فتات الحياة وهوامشها لتجعلنا نكتشف أنَّ هذه الهوامش هي في حقيقتها المتون المنزوية لصالح الكثير من الهراء الذي يحيط بنا، أحبُّ النصوص التي أصدر كاتبها لغته فيها من إدارة هويَّة خاصَّة: مختومة وموقَّعة بنفسٍ خاص.. لا يحتمل التقليد، أحب أن تهمس النصوص بالأسئلة، التي لا تغادر قلقها، ولا تسمح للقارئ بأن يغادرها دون أن يعديه هذا القلق ويعيد تشكيل رؤيته للحياة، وللأشياء من حوله..! 
• جاء نصف مجموعتك القصصية “خيط ضوء يستدقُّ” قصصًا قصيرة جدًّا، لماذا وقع اختيارك على كتابة هذا الجنس الأدبي الصعب الذي يقوم على بلاغة الإيجاز وشعرية التكثيف وتنطبق عليه مقولة النفري الشهيرة “إذا اتَّسعت الرؤية ضاقت العبارة”؟
أقول دومًا إنَّ الأديب لا يفكِّر في قالبه، ثمة أفكار تفصِّل ثيابها، وتخلق ملامح الجسد الذي ستسكنه، مشكلة النصِّ القصصي القصير جدًّا هي اللغة، لأنها التفصيل الأكثر وضوحًا، قد لا يمكن ملاحظة الكلمة الزائدة أو النافرة في نصٍّ قصصي مكوَّن من خمسمائة كلمة، لكن يمكن ملاحظتها بدقة وانفضاح في نصٍّ مكوَّن من عشر كلمات، هناك إذن تحدٍ لغوي هائل، وربما كان ذلك ما يجذبني؛ فاللغة واحدة من أجمل الخصوم التي يمكن تحدِّيها، وأنا متورِّطة في حبِّ اللغة، ومدمنة لعمليتي التهذيب والصقل اللتين تتيحهما الكتابة، وتتيحهما القصة القصيرة جدًّا بشكل مضاعف، في النص القصصي القصير جدًّا لا يفضفض الكاتب كثيرًا؛ ليس ثمَّة شخصيات مرسومة ومدوِّخة، أو أمكنة موصوفة تشعل الحنين، وتعلِّق الحواس، أو غيرها من الأمور التي تشبع نهم القارئ، القصة القصيرة جدًّا مجرَّد ومض كاشف، لقطة يمكن أن تكون ناجحة، ومرسومة الأبعاد أو لا تكون، هناك تحدٍّ هائل يتعلَّق بالقدرة على الإيحاء، والاستناد إلى دلالات الكلمات، وهنا يكمن جوهر التحدي: كيف يمكن صياغة جملة قصصية قصيرة، بأقل قدر من الكلمات وبفيض من الدلالات؟ وهنا يكون الاشتغال أكثر على الثقة في ذكاء القارئ، وعلى إحصاء خلفياته الثقافية التي يمكن الإحالة إليها، واستثمارها.

• ما هو تصورك لمستقبل الأدب السعودي؟
هناك حراك أدبي لا يمكن المرور دون ملاحظته، يكفي مطالعة إحصاءات الإصدارات كلَّ عام، هناك ازدياد مطَّرد في عدد الكتَّاب، وعدد المؤلَّفات في فنون الأدب المختلفة، أعرف أن العدد الإحصائي لا يدلُّ بالضرورة على جودة هذا الحراك ووضوح أهدافه، لكنـَّه مؤشِّر مستقبلي يدلُّنا على الحركة الأدبيَّة تعبر نحو ضفَّة أخرى، وهذا وحده مبعث تفاؤل ورضا، المهم ألاَّ ينتهي هذا الحراك دون أن ينجز واجبه المرحلي: تقديم أدب يليق به، أدب خالد، يليق بعظمة الصحراء التي انبعث منها الشعر، ونبتت فيها المعلقة.
• سؤال قبل الأخير كيف هو المشهد الثقافي السعودي حسب رأيك؟
من حالفه الحظُّ واتصل بالمشهد الثقافي قبل عقدين من الزمان تقريبًا سيدرك كمَّ التغيُّر الذي أصاب وجه هذا المشهد، هناك جهودٌ تعمل على تعميم الثقافة، وهناك عوامل تسند هذه الجهود، عوامل فرضت نفسها بفعل التغيرات العالميَّة، وثورة الاتصال، لكنَّ “الثقافة” تظلُّ كلمة عملاقة، هل سأقول إني متفائلة؟ نعم، هل سأقول إني متفائلة جدًّا؟ ربما، تصوُّري عن الفعل الثقافي لن يكون مفصولاً عن وظيفته: ما الذي سيغيره مشهد ثقافي حافل ومتنوِّع ونشط؟ هل ستحل الثقافة مشكلاتنا؟ أم هل يجب أن نحل مشكلاتنا حتى نحصل على مجتمع مثقف؟ كيف ستضطلع الثقافة بدورٍ يصنع فرقًا في حياة إنسان عادي تمتلئ جيوبه بهموم الحياة اليوميَّة؟ مشكلة الثقافة – عمومًا- والأدب – خصوصًا – أنهما ضحية كل عملية إزاحة؛ ينافسهما دومًا رغيف الخبز، وثمن العلاج.. حتى تواترت هامشيتهما، سيكون المشهد الثقافي فاعلاً حين يرتقي – بسببه – الإنسان العادي، وحتى مع أقصى درجات الاجتهاد لن تستطيع الجهات التي تعنى بالشأن الثقافي أن تقوم بدورها إن لم تسندها كلُّ المؤسسات التي تؤثر في هذا الإنسان.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *