طربوش الأكابر


عبد الحليم ابو دقر *

( ثقافات )

1
أطل من إحدى بنايات عمان الغربية الفخمة فتى جميل يحمل بيده طربوشا أحمر بشراشيب سوداء، نادى على شخص في الشارع يدعى أبو جميل، أدخله إلى داره، اكتسى وجه الفتى بالحزن، دمعت عيناه :
– أبي أعطاك عمره. 
– والله! متى؟ لم يقولوا لي حتى أقوم بالواجب.. كيف مات؟ 
– مات 
– معناه ما ظل معي و لا واحد، الوحيد الذى آمن بي مات، صار لازم أكمل وحدي.. لا مشكلة، من أجلكم أيها الأطفال أنا مستعد للقيام بالمعجزات، أعدكم الآن وأمام هذا الفتى الطيب، إذا تحسنت إمكانياتي المادية سأدفع من جيبي الخاص حتى أنجز لكم أهم الأعمال، أنتم المستقبل، أنتم .. 
– ما هو عملك ؟
– كاتب، أديب، مبدع. 
– عظيم. 
– عندما يعرف الناس أنهم باعوا حالهم ببلاش وأنني لم أبع سيعترفون أني قائدهم الحقيقي، قائدهم الخفي الذي ظل يصحح أمورهم على طريقته الخاصة، لا ينام الليل وهو يرعاهم.. 
– لما فتحنا وصية المرحوم لقيناه موصي بهذا الطربوش لك.
مدّ أبو جميل يده ليأخذ الطربوش، أبعده الفتى: 
– طوّل بالك، في إجراءات روتينية قبل أن تستلمه
– أنا كيف أعرف أن أبوك لم يوصِ لي إلا بهذا الطربوش، في مجال أطّلع على الوصية؟
أمر الفتى (أبو جميل): ارفع الطاقية
رفع أبو جميل طاقيته عن رأسه، قدم رأسه للفتى… آلم الفتى أبو جميل وهو يشد شعره. فقد أبو جميل أعصابه، دفع الفتى بعيدا عنه.
– عندك أمراض مزمنة. آخر عملية أين مكانها؟
دار أبو جميل حول نفسه يبحث عن مكان آخر عملية. صرخ الفتى في أبو جميل : 
لف( لفّ أبو جميل).. شهيق (شهق ابو جميل).. زفير( زفر أبو جميل).. انزل تحت (نزل ابو جميل ولم يتمكن من الصعود، ساعده الفتى) : 
– عرفت الآن لماذا أوصى أبي لك بهذا الطربوش.
– أمانة تحكي ما هي نتائج الفحص، معي مرض خطير، صح؟ قلبي قال لي من زمان إني مريض بمرض خطير، أنا خايف على أم جميل أن تضيع من بعدي، كيف تمشّي أمورها،أنا قلق على جميلة،على .. 
وضع الفتى الطربوش على رأس أبو جميل:
– على الأقل ثلاثة أيام لا ترفعه عن رأسك، وإذا قدرت تنام فيه نام. إذا أصابتك حكة لا تخف ..
– لن أرفعه عن رأسي طول عمري.
– أين أجدك بعد ثلاثة أيام؟
– على الحاويات.
(همّ الفتى باستعادة الطربوش عن رأس أبو جميل، إلا أن أبو جميل منعه)
– أوصل الجمرك، أفتش عنك بين الحاويات؟! مستحيل.
– حاويات الزبالة في عمان الغربية..
– أنت تضحك عليّ، كيف تشتغل على حاويات الزبالة من دون كيس، من دون بكب؟
– لا تستغرب، ما استخرجه من الحاويات لا يلتفت إليه أحد غير عمّك أبو جميل. مرات يمر أسبوع قبل أن أتمكن من ملء جيب الفكّة هذا.وأدخل إصبعه في جيبه.
– معك تلفون؟
– عمري ما أحمل تلفون، ذبحت حالها أم جميل حتى أحمله، هي معها واحد، وجميلة ابنتي معها اثنان.. لن أحمل تلفون حتى لا تقيدني أم جميل به، كل ما أخطر على بالها تشدني مثل الخاروف حتى لو كنت في قاع الحاوية .. التلفون مثل الصنارة إذا علقت فيها لن تفك حالك.. 
– مرضتني يا زلمه، قل ما معي تلفون وانتهينا.
– أنا كل يوم أفتش هذه الحاويات ..
غادر أبو جميل منزل الفتى سعيدا بطربوشه الجديد، ظل يرقص، يغني في الشارع: “ملعون أبو السنين التى ولت من دون طربوش، طول عمري أحلم فيك يا طربوش الأكابر، أنت غطاي، أنت عصاي، أنت دواي.. أنت أمي، أنت أبي، أنت أخي،..” وهو يتخيل العاصفة التي ستحصل عندما يدخل بطربوش الأكابر على زوجتة وابنته جميلة الدار، ويدعو: الله يستر ما أقضي عليهم…
2
كانت أم جميل مستغرقة في تنظيف مطبخ الفيلا التي تخدم فيها عندما تقدمت منها سيدتها، وهي امراة حسناء في مقتبل العمر : 
اسمعي يا أم جميل، فكرت كثيراً، أنت أحق واحدة في هذه الأساور.
نزعت أساورها الذهبية من معصميها وقدمتها إلى أم جميل. انشدهت أم جميل، تراجعت مبتعدة عن معلمتها وهي تردد:
– الله يوفقك، لن يلبسهم أعز منك.
– لا، هذه الأساور صارت من حقك انت، وقفتِ معي، خدمتني بإخلاص من اللحظة التي دخلت فيها داري، انكسرت رجل زوجي عن بنات الحرام.. لم أرَ الخير إلا على وجهك.
– لن آخذهم.
– إذا لم تأخذيهم ينخرب بيتي، هذه الأساور صارت لأم جميل .
تسلّم أم جميل زنودها لمعلمتها، تلبسها الأساور.
3
قدم جميلة العارية الضخمة جدا محشورة في شق باب دار إحدى السيدات، تصيح جميلة في صاحبة الدار: 
– حتى لو كسرت رجلي لن أسحبها، أعطيني الكندرة. 
ترد صاحبة الدار:
– يعني كل يوم تستلمني جميلة العبيطة، جميلة الهبلة، النخلة الطويلة، رح أهرس رجلك هرس يا جميلة.
– أهرسيها، ما رح أسحبها، أعطيني الكندرة . 
تصرخ جميلة من الألم. تسحب قدمها. يغلق الباب. تنهال جميلة على الباب بالدق، بالرفس.. تنهار في البكاء، بالسباب.. تفتح السيدة الباب:
– وليه جميلة، إذا ما بتنقلعي، رح أطلب لك الشرطة.
– ما بخاف من الشرطة، أطلبيهم. أعطيني الكندرة.( تطلب السيدة رقما من تلفونها الخلوي).. من غير الشرطة، الله يوفقك من غير الشرطة، أعطيني الكندرة حتى أمشي.
– ألو، الشرطة؟ آسفة، النمرة غلط.. والله حظك بفلق الصخر يا جميلة، ردت الاطفائية.. اسمعي، أنا تذكرت أني وعدتك، قلت لك إذا أخذوا منك الكندرة ، أعطيك واحدة ثانية.
تتنهنه جميلة من البكاء : الحمد لله أنك تذكرتِ.
– أنت كذابة، وأنا وقعتك في شر أعمالك، أنا عمري ما وعدتك، أنت يا جميلة تستغلي طيبة قلبي.
– والله شلحوني إياها أول ما طلعت من عندك، هجموا عليّ، شلحوني إياها وهربوا.
تمد السيدة يدها خلف باب بيتها، تخرج حذاء جديدا، ترميه لجميلة:
– إذا شلحوك إياها، تعالي خذي غيرها.
تنتعل جميلة الحذاء:
– عرفتِ أني صادقة.
تدخل الشرطة إلى البناية وجميلة تغادرها. تتخيل جميلة انبهار والديها بحذائها الجديد، تشعر وهي في الشارع أن هناك من يتعقبها، تنزع حذاءها، تضعه تحت إبطها.. تركض.. يركض خلفها مجموعة من الرجال.
4
حطمت جميلة الدار من فرحتها بحذائها الجديد، هرست بسكوتات أبيها، فغّصت علبة راحته، حتى دميته لم تنج منها، طيرت رأسها، وقعدت تلطم عليه: “كيف سينام أبي دون أن يبكي على صدرها”.. كسرت نظاراته، سحقت أدويته، طحنت إطار صورته عندما كان شابا وسيماً.. ولما وصلت أم جميل إلى الدار كانت جميلة تغني، ترقص بحذائها الجديد أمام المرآة ..
– خفيفة طول عمرك يا جميلة، خفيفة، من سيتزوجك؟! (أوشكت جميلة على البكاء) بسيطة، والله يا جميلة لو اشتري لك العريس مشترى إلا أجوزك، ومن أحسن واحد، لن أترك عملية تجميل واحدة إلا وتعملينها، سينتحر الرجال عليك يا جميلة، ورح أقص لك من كل رجل 10 سم، وأعمل بشرتك مثل الجبنة.
– أنتِ أعطيني ناشف وأنا .. 
– حتى يضحكوا عليك الشباب وياخذوهم منك، لازم نفرّح أبوك،أنا رح أعوضه عن كل عذابه، وأنت يا جميلة أزوجك، أفرّح قلبك حتى تهدّي يا أمي..
5
دخل أبو جميل إلى داره بحركة استعراضية، أراد أن يلفت نظر أم جميل وجميلة إلى طربوشه، هزّ رأسه بالطربوش، سأل بجدية غير معهودة : ليش ها الدار ما انكنست؟.
رقّصت أم جميل معصميها أمام عيني أبو جميل:
– قلتلها لبنتك ما رضيت… 
دقت جميلة الأرض بحذائها الجديد: 
– كذب يابا ما قالت لي. 
طُرق باب الدار طرقا عنيفا، اقتحمت الشرطة الدار، أمسكوا بجميلة انتزعوا حذائها فكّوا كعبه، وتحفظوا عليه.. 
قبل مغادرة جميلة مع الشرطة حضر رجل في نهايات عقدة الخامس، نزع عن رأس أبو جميل الطربوش، صار أبو جميل يولول:
– طربوشي.. 
– عليه سموم لن يترك ولا شعرة على رأسك، احمد الله أني لحقتك، نجيتك من ابن أخي المغضوب، شغله الشاغل إيذاء الناس.. ذبحته من الضرب، طالع على أخواله أولاد الحرام. 
بعد لحظات، دخل رجل واتجه إلى أم جميل، أخذ الأساور منها، أخبرها أنه أدخل زوجته المصح، قال لأم جميل : اعتبري أنك في إجازة مفتوحة، علاج زوجتي سيطول.
__________
* قاص من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *