*إبراهيم صموئيل
اختلف النقّاد والدارسون في كمّ الإنتاج الهائل من القصص والروايات وغيرها لدى الكاتب الفرنسي الشهير “أونوريه دي بلزاك” (1799-1850) فيما إذا كان الدافع عبقرية فريدة استثنائية أفاد منها ليصير أديبا عالميا خالدا، أم وسيلة لإشباع رغبته العارمة في جمع المعجبات من الفتيات والنساء حوله وخوض مختلف المغامرات العاطفية معهن؟!
في العودة إلى سيرة كاتبنا سنجد في حياته علاقات عاطفية لا تحصى، وأكواما من رسائل المعجبات به وبأدبه يطلبن فيها خطب وده أو صداقته أو حبّه، فكان يهمل الكثير منها، ويهتم بالقليل لا استخفافا بها -يؤكد الدارسون- إذ كانت تلبي رغبته وتوقه، وإنما لكثرتها من جهة، ولانكبابه على الكتابة بمعدل 18 ساعة يوميا من جهة أخرى!
إحدى تلك الرسائل الكثيرة حملت توقيع “الغريبة”! لفتته وجذبت اهتمامه لما فيها من إعجابٍ بأدبه وغرام بشخصه، فتعلق بصاحبتها المجهولة، وما انفك يراسلها بشغف، ويبادلها ولَهًا بولَه، دون أن يقدّر أن تلك الغريبة الأوكرانية ستصير الأقرب إليه، حين يلتقيها أخيرا، ويعرف أن اسمها “هانسكا” وأنها متزوجة من رجلٍ لم يسمع باسم بلزاك، فيعرض عليها الزواج، مضحيا بكل شيء في سبيل الارتباط بها ونيل رضاها!
قضى بلزاك بضع سنوات مع هانسكا في أوكرانيا، ثم في مارس/آذار 1850 (أي قبل رحيله بأشهر قليلة) عقد قرانه عليها، فصارت زوجته. وفي حين كان المرض قد تمكن منه، والألم المبرح يهدّ طاقته، وشبح الرحيل يتراءى له بوضوح.
كان العديد من متابعيه يكتبون بأن هذه الغريبة المجهولة (التي باتت معلومة) إنما تقرّبت إليه، وارتضت بالزواج منه رغم مرضه سعيا منها لنيل الشهرة بحملها لاسمه، ولحيازة الثروة الكبيرة جراء نشر أعماله بعد رحيله!
ثمة تفاصيل كثيرة لا تعنينا الآن، المهم هو التوقف مع المكاشفة الكاملة التي جرت في إحدى الليالي بين كاتبنا وزوجته هانسكا، فمن على فراش المرض وفي تأمل عميق لبلزاك في عيني هانسكا ألح عليه خاطر لطالما أرّقه، فسألها عما إذا كانت قد أحبته كاتبا مشهورا ونجما عالميا، أم أنها أحبت شخصه كإنسان رغم عمره المتقدّم، وأمراضه الفتّاكة، وجنونه الذي لا يخفى؟
بنبرة باردة وملامح وجه حيادية، تجيبه هانسكا “أردتكَ زوجا لي” فلا تكون إجابتها غامضة فحسب، بل هي لم تعنِ له شيئا قط!! غير أن الإجابة الباردة هذه أحمَت تساؤله وأجّجته، فعاد بلزاك الواهن من المرض يسألها بحميّة، وكأن الماضي انكشف له في لحظة انكشاف الكفِّ: عمّا إذا كانت أحبت رواياته وشخصياتها، وأبطالها، وأرادت أن تكون -على نحو ما- إحدى تلك الشخصيات الخالدة.. أم أحبته هو بالذات؟! ثم هل سعت حقا -كما كتب النقّاد- أن يرتبط اسمها العادي باسمه العلم.. أم أحبته بعيدا عن هذا القصد؟!
سيدخل بلزاك، بعد تلك الحيرة التي لم تُروَ في دهليز الرحيل المعتم دون أن يضاء قلبه القلق بإجابة شافية عن سؤال ليس نافلة أبدا له، ثم سيمضي في الغيبوبة إلى أن يستسلم للرحيل الأبدي، مصطحبا معه حرقته الكاوية في أن يعلم منها علم اليقين. لكأن الأقدار قد أجّلت الكشف الرهيب هذا حتى أيامه وساعاته الأخيرة، فيرحل غاصا بجهل الجواب، ومكتويا بإلحاحه على روحه.
أتراه اخترع تساؤله هذا اختراعا في محاولة منه لمقاومة الموت وتأجيله، كما تتزاحم الأسئلة فينا مع كل وداع لصديق مسافر أو حبيبة؟! هل تثير مداهمة شبح الموت أسئلةَ الحياة.. أم أن الحياة تضن ببعض الأسئلة وتتحفظ عليها، فلا تطرحها على خواطرنا، مهما امتدت بنا الأعمار، إلا في نهاية الرحلة؟!
أيا كان، فمن المهم أن نتأمل في تساؤل كاتب مثل بلزاك أبدع الكثير، وخوض وغامر وجرّب، وحظي بما يندر أن يحظى به كاتب غيره، خصوصا حين يضيف قائلا لمن صارت زوجته “إذا كان حبك لي إعجابا بأدبي، فإن لدي الكثير من المعجبات بحيث لا أحتاج أن تضاف إليهن واحدة أخرى!!
ربما يكون في علاقة بلزاك مع تلك الأوكرانية الغريبة حقا ما يوجب التوقف وتفحص العلاقة، نظرا لالتباسها وخلفياتها. أما مع الكتاب بعامة فالملتبس شديد التداخل، والتعقيد هو التساؤل نفسه. إذ كيف يمكن تبين الدوافع، وفصل المغرض منها عن الخالص الصافي؟
بلى تحدث في حياة الكاتب أو الكاتبة علاقات مؤقتة عابرة، تبدو كالحب، غير أن تلك العلاقات ليست الشاهد هنا، فهي عارية من الأبعاد والخلفيات كونها عابرة (ولا يقصد بعابريتها إدانة لها بل تمييزا) أما علاقة الحب المقيمة الصميمية مع كاتب أو كاتبة فمن الصعب تبين الخيط الأبيض من الأسود فيها.
سيتداخل الأمر على المحب نفسه، ستلتبس المشاعر وتتمازج وتختلط وتتفاعل. فشخصية الكاتب لن تنفصل عن كونه كاتبا، ملامح وجهه، ولون بشرته، وطوله وعلامات هيئته الخاصة، وكذا طباعه وميوله وطرائق سلوكه… إلخ. ستبدو لدى المحب متحدة مع النصوص الأدبية والشخصيات الروائية والقصصية والمسرحية.
فما قد يكون عيبا في الشخصية ستتولى النصوص تغطيته، وما قد يكون ضعفا فنيا أدبيا في النصوص قد يتوارى خلف الشخصية، وبذا سيلتبس -في علاقة الحب الحقيقية العميقة- فيما إذا كان الدافع ينبع من أعمال الكاتب أم من شخصه؟
وفي كل الأحوال، إذا كان تساؤل بلزاك قد أملاه الكشف الذي تراكمت موجباته عبر تجاربه المتنوعة إلى أن تفجر فيه، فإن الكاتب عموما لا ينشغل -كما أحسب- في تساؤلات كهذه، ولا يسعى إلى تقصي دوافع محبوبه، إذ سيستغرق في العلاقة ويغوص مبحرا في مياهها الدافئة، تماما كما لو كان يكتب نصا جديدا لروحه العطشى.
__________
* قاص من سوريا