«فرح الفقراء»:للبائسين الجنة ونعيمها


*إبراهيم العريس

هل الفقراء هم دائماً على حق؟ وهل صحيح أن البائسين هم الذين يشكلون خزان قوى التغيير والتقدم في المجتمع؟ يميل بعض الرومانطيقيين من أصحاب نزعة كان يطلق عليها في روسيا آخر القرن التاسع عشر اسم «الشعبوية» (نارودنايا)، إلى الرد إيجاباً على هذين السؤالين، وربما فقط انطلاقاً من فكرة حسابية مؤداها ان الجمع لا يمكن ان يخطئ، ناهيك بالفكرة الجدلية القائلة ان أي «كم» لا بد له من ان يتحول في نهاية الأمر الى «كيف». وهذه الفكرة تبدو في حد ذاتها جـميلـة وتعاطـفية… ولكـن يـبقى ان التـاريخ لـم يثـبت صحتها أبداً. وبـخاصـة حـين تعـبره أحـداث تثـبت ان الـفقـراء (الـكم الأكبر في أي مجتمع من المجتمعات) هم بالأحرى الخزان الأول لكل أنواع الخطابات المتعصبة والأفكار الإقصائية المستبعدة للآخر.


وقد يكون في إمكاننا هنا ان نذكر في هذا الصدد مثالين من القرن العشرين نفسه: الأول هو جمهور نازيي هتلر، الذي، على رغم ما قيل كثيراً من انه كان جمهور البورجوازية الصغيرة، كان يتألف في نهاية الأمر من بؤساء الأرياف والمدن الذين دفعوا، اجتماعياً واقتصادياً، ثمن هزيمة جيوش البورجوازية الألمانية في الحرب العالمية الأولى، ما جعله لقمة سائغة بين أفواه الفكر النازي الهتلري، والمثال الثاني هو ايران النصف الأول من خمسينات القرن العشرين. فيومها هناك، وبعدما استتب الأمر لثورة مصدق على الاستعمار الإنكليزي وحلفائه الأميركيين، استعانت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بالبروليتاريا الرثة، وزعماء الأحياء الفقيرة، وبكل أنواع الفقراء البائسين عموماً، لكي ينزلوا إلى الشارع ويسحقوا ثورة مصدق الوطنية والتقدمية، التي قامت أصلاً من اجل مصلحة أولئك البائسين.
 بيد أن المثال الأسطع والأكثر إيلاماً في هذا المجال، يمكننا العودة من اجله الى الحروب الصليبية، وبخاصة الى الحملة الصليبية الأولى التي بدأت في العام 1095 ميلادياً، لتنتهي بعد ذلك بأربع سنوات، مع الاستيلاء على مدينة القدس. وهذه الحملة، هي التي شكلت الموضوع الأساس في رواية للكاتبة زوي اولدنبورغ، صدرت في العام 1970 بعنوان «فرح الفقراء»… وتعتبر هذه الرواية منذ ذلك الحين واحدة من اكثر ضروب الأدب المتحدثة عن زمن الحملات الصليبية عمقاً ودقة في التحليل، ناهيك ببعدها الأدبي الجمالي الخالص. بيد ان الأهمية القصوى لهذه الرواية تتجاوز هذا، لتبرزها بوصفها الحكاية التي كتبت أخيراً لتنزع طابع القداسة عن فصل أول جرى التعتيم الرسمي الكنسي عليه طويلاً، اذ اعتبر تاريخاً مقدساً ومحرّماً لا يجوز الدنو منه. والحقيقة ان قراءتنا لـ «فرح الفقراء» ستكشف لنا السبب الحقيقي الكامن من خلف ذلك «التابو» الذي طال زمنياً. ذلك ان الكاتبة اولدنبورغ تتوغل هنا في ما تؤكد لنا انه «الحقائق التاريخية التي لا مراء فيها» وأولها ان الفقراء الأوروبيين وقد تم التلاعب بهم واستغلال ايمانهم الديني العميق، انما كانوا هم وقود الحملة وشهداءها وأبطالها، ولكن من دون ان يحققوا منها اي مكاسب في مقابل تضحياتهم. المكاسب حققها كبار رجال الدين المتحالفين مع كبار القادة العسكريين، وكبار الإقطاعيين، الذين تزعموا الحملة لأسباب اقتصادية واستراتيجية مغلفينها برداء الدين لمجرد ان يتلاعبوا بالفقراء ليخوضوا القتال عنهم ويحققوا مآربهم من طريقهم.
 هنا قد يقول قائل، ان الحروب هي دائماً كذلك، تسيل فيها دماء الفقراء لتتحول ذهباً في خزائن الأغنياء. غير ان للحرب التي تصفها اولدنبورغ في روايتها هذه، خصوصية صارخة: انها الحرب الأولى الحقيقية التي قامت في التاريخ باسم الدين متجاهلة ان الدين الحقيقي هو في حد ذاته وفي تعريفه الجوهري الذي لا يمكن أحداً المجادلة فيه، حال مناهضة للحرب. ومن هنا كان على زعماء الحرب، في تحالفهم غير المقدس، ان يلوحوا بأن الدين في خطر مستنهضين همم أصحاب الإيمان الحقيقيين، غير الواعين حقاً لما يراد لهم، ولدرجة التلاعب بهم.
> من هنا ولكي تحدد موضوعها وترسم منذ البداية إطار هذا الموضوع، تبدأ زوي اولدنبورغ روايتها بالبابا اوربانوس الثاني وهو يستحث همم الزعماء والعسكريين وأمراء الدول والمقاطعات لكي «يهرعوا الى نجدة الإمبراطورية البيزنطية اذ يهددها تقدم الأتراك»، وهكذا راح البـابا يـبـعـث المنادين والواعـظين ومن اشـهرهـم بـطـرس الناسك الى شتى أنحاء أوروبا مضفين شرعية وشعبية على ذلك النداء. والحقيقة ان تلك الدعوة لاقت على الفور استجابة من المؤمنين الطيبين البسطاء، الذين سبقوا في الاندفاع زعماءهم وفرسانهم.
 من بين كل هؤلاء اختارت الكاتبة مجموعة من حجاج بسطاء أوضحت لنا منذ البداية كيف انهم تحمسوا فوراً واستعدوا لأن يكونوا جنوداً في سبيل القضية ويحاربوا من اجلها. والمجموعة التي اختارتها الكاتبة تتألف من عمال حياكة فقراء معدمين من منطقة آراس الفرنسية، اندفعوا في صحبة نسائهم وأطفالهم غالباً «جامعين بين إيمان طيب وبسيط، واعتقاد بالمعجزات ناتج – وفق الكاتبة – عن جهل البسطاء وتواضعهم، وبين حس طبقي حركهم إذ خشوا أن يصبحوا من دون عمل بفعل التطورات البنيوية في الاقتصاد، ورغبة في الهرب من الفقر». صحيح ان هؤلاء كانوا يفيضون حباً لدينهم ولسيد هذا الدين وأمه البتول ويتوقون شوقاً لرؤية القدس، مستعدين في سبيل ذلك إلى قتل اكبر عدد ممكن من الأتراك «الكفرة»، لكنهم أيضاً كانوا في الوقت نفسه قد وُعدوا بالغنائم والعيش الرغيد. لهذا، ما إن وصلت طلائعهم إلى القدس ومناطقها، حتى بات من الواضح انهم لن يتورعوا عن القتل والموت في سبيل ما جاؤوا من اجله. لكن الحقيقة ان الجموع البائسة، وعلى عكس القادة المترفين المترفعين من كبار رجال الدين وأمراء الحرب، سرعان ما شعرت بالتعب والألم… وبخاصة حين رأت الزعماء مرتاحين يعيشون حياة الرغد والبذخ ويجمعون الثروات، فيما هم جائعون عطشى، يموتون برداً ومرضاً وإنهاكاً على مشارف القدس. فهم في الحقيقة فرض عليهم أمراء الحرب من زعمائهم ان يبقوا مرابطين مع عائلاتهم خارج المدن، أي بالتالي وفي شكل يبدو لنا اليوم واضحاً، خارج الغنائم. وصاروا يُحرّكون من بعيد، يُجمعون، تُنفخ صدورهم بعبارات الإيمان ويوعدون بالجنة ان استشهدوا، ثم يُدفعون الى الاستشهاد… في مطلق الأحوال كانوا هم الوقود والضحايا، وكانوا اليد العاملة التي تقوم بأصعب الأشغال. اما اذا سمح لهم بأن ينهبوا شيئاً فإنما يكون دورهم تالياً، ومن بعيد، لدور الزعماء والقادة والمساعدين والأزلام المباشرين لهؤلاء… وغالباً من دون ان يترك لهم هؤلاء شيئاً ينهبونه.

 واضح هنا ان هؤلاء البائسين الذي تصف زوي اولدنبورغ «حربهم» في روايتها، يقدّمون في هذه الرواية، تماماً كما كانوا في الحقيقة العارية التي اغفل التاريخ المقدس ذكرها: يقدمون بوصفهم جلادين وضحايا في الوقت نفسه… وسيبدو هذا واضحاً بعد «تحرير» القدس، حين لم يجدوا لا جناناً ولا ثروات في انتظارهم… كل ما في الأمر انه طلب منهم، ان يظلوا على إيمانهم… على اعتبار ان ذلك الإيمان يجب ان يكون ثروتهم الوحيدة، فيما راح الزعماء يؤسسون الممالك والإمارات ويبنون القصور ويقيمون التحالفات المثمرة… مع أعداء الأمس.
> إذاً هكذا، وفق الكاتبة زوي اولندبورغ – المولودة في روسيا العام 1916، من أسرة تضم مؤرخين وباحثين كباراً، قبل ان تصل مع عائلتها لتعيش في فرنسا منذ كانت في التاسعة -، هكذا كانت الحملة الصليبية الأولى، وهكذا كان دور الفقراء البسطاء فيها… ومن الواضح ان هذه الكاتبة، على رغم اهتمامها الكبير بالتاريخ ومساره، كان يهمها اكثر دروس ذلك التاريخ، ومقدار ما يمكن لتلك الدروس – كما نرى من خلال «فرح الفقراء» – ان تنطبق على الحاضر. وهذا يبدو واضحاً بقوة في كتب اخرى للكاتبة نفسها، والتي طالما شغلتها قضية الإيمان وإيمان الفقراء على وجه الخصوص، كما في روايات مثل «محرقة مونسيفور» و»المحروقون» و»مدن من أجساد» و»طين ورماد» وهي كتب جعلت منها مرشحة دائماً لجائزة نوبل للآداب.
________
*(الحياة)

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *