إبهام


* صلاح أبو هنّود

( ثقافات )

هَّزه كثيرا موت شقيقه الصغير، صار بعدها يخاف الموت كثيرا ،والأشد من ذلك : خشيته أن يموت الوالد أو الوالدة، صار يستيقظ ليلا ويتسلل زحفا حيث ينامان ويدسُّ يده من تحت اللحاف. يمسك إبهام أصبع قدم والده. يضغط تدريجيا عليها فيتحرك الوالد. يعود الولد مطمئنا الى فراشه بعد أن يكرر نفس الحركة مع الوالدة .
حين صار في الخمسين من عمره تلقى من شقيقته هاتفا مفاده أن والده نُقل بواسطة الدفاع المدني الى المستشفى ،،هرع إلى هناك فوجد والده يرقد فوق السرير مشلول اليسار والنطق، بعد أن تحرر من آثار الصدمة انتبه إلى أن والده المتأنق طوال حياته، يلبس ثياب المرضى في المستشفيات فعزّ عليه ذلك، لا استكبارا ولكن لأن لوالده علاقة خاصة بالملابس هو يعرفها.
هرع إلى أقرب محل لبيع ملابس الرجال وابتاع بيجاما سماوية اللون، وقفل عائدا بسرعة كبيرة إلى المستشفى لتكون البيجاما على جسد والده قبل أن يصل الزوار، طلب المساعدة من الممرضين والممرضات وقبل وصولهم كان ضابطا يرقد في السرير الآخر قد هبَّ لمساعدته.
صرخ:” الله أكبر شو هالغلطة”; حين اكتشف إن البيجامة التي أحضرها ببنطال قصير (شورت) وهو ما يمقته والده لأنه لا يليق-كما يقول- بالرجال. هدأ الضابط من روعه عندما قال:”لن يره أحدا تحت الغطاء.كما أن والدك لا ينطق وربما هو لا يدرك ما ألبسناه من ثياب”. 
مكث ثلاثة أيام دون أن يفارق والده وقبل حلول ليل اليوم الرابع، رأى الدم يعود إلى وجهه، وخديه كأيام عنفوانه،ففرح ونادى على الضابط عبدالله لكي يرى المعجزة. استدار بوجهه ناحية الوالد متأملًا إيّاه، فتحركت يد الوالد حركة بسيطة تشي برغبة في المصافحة . جلس إلى جانبه على حافة السرير الأبيض ممسكًا بيده ، ثم قبلها ثلاثا ; عسى أن يسمع دعاء الرضا عليه، لكنّ-فجأة- امتقع وجه والده ثم زفر ثلاث زفرات زادت من شحوب وجهه. 
كان عبد الله يقف خلفه ،فوضع يديه على كتفيه بينما يساعده على الوقوف، قائلًا: البقية في حياتك.
عبد الحيّ :هل مات؟
عبد الله : نعم.
قال:”مستحيل”، ثمّ صرخ مناديا باتجاه غرفة الطبيب المناوب.
رفع عبد الله الغطاء عن قدمي والد عبدالله، ثمّ أمسك بيده واضعًا إيّاها على إبهام القدم الأيمن.ثم ضغطا معا في محاولة منهما لإزاحته يمينا وشمالا .كان جسد والده قطعة واحدة ( قدما ورأسا ) لا حراك فيها، في تلك اللحظة بكى كطفل صغير إذ فقد والده الى الأبد ،،،،
_____
*مخرج وكاتب من الأردن. 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *