*يوسف ضمرة
أعجبتني حكاية جائزة «الغونكور» الفرنسية! ياه كم هي فرنسا حريصة على الاستئناس بآراء طلاب لبنانيين في الجامعات لاختيار رواية من بين تسع روايات مرشحة للفوز. هؤلاء الطلبة طبعاً ليسوا هم من يقرر أو يحدد الرواية الفائزة، ولكن يمكن القول إنها جائزة على هامش الجائزة.
مسكينة فرنسا، وليس مخطئاً من دعاها بأوروبا العجوز. لقد شاخت وملأت وجهها التجاعيد. لم تفكر في بداية الحراك العربي أنها ربما لا تكون الحصان الرابح، ظنت أن الحصان هو الحصان نفسه، خصوصاً بعد التدخل السافر في ليبيا. لم تنتبه إلى أن تدخلها في ليبيا كان بضوء أخضر أميركي وروسي.
اليوم اكتشفت فرنسا أن في يدها ورقة قديمة لعبت بها وكسبت كثيراً.. الثقافة.
يريد الفرنسيون الآن بعد اكتشاف حجمهم الحقيقي أن يعودوا إلى تلك الورقة لعل فيها بقية من رصيد كافٍ للربح. لِمَ لا نجعل الجيل الجديد مهتماً أكثر من الراهن بالثقافة الفرنسية؟ الأدب واللغة والموسيقى والسلوك؟ لقد فعلنا ذلك من قبل وتحولنا إلى ما يشبه الأم الحنون لكثير من الشعوب والجماعات.
وإلا ما معنى أن تتنبه الأكاديمية الفرنسية للطلبة الجامعيين اللبنانيين وتشركهم في قراءة الروايات المكتوبة بالفرنسية بطريقة شبه إجبارية لا اختيارية؟ المعنى أننا كفرنسيين نريد العودة إلى بعض ما كنا عليه هنا في الشرق، نريد للشرق أن يسهم من جهته في تقوية الروابط الثقافية بين شعوبه وبين الفرنسيين.
جائزة الغونكور جائزة رفيعة على المستوى العالمي، وهي تأتي في المرتبة الثانية بعد نوبل، وربما تزاحمها جائزة البوكر البريطانية الشهيرة. وجائزة الغونكور ليست ذات قيمة مادية كبيرة مثل نوبل، بل أقل بكثير حتى لا تكاد تكون لها قيمة من هذه الناحية. لكن الرواية الفائزة سرعان ما تترجم إلى أكثر من ثلاثين لغة، وسرعان ما تصبح من أعلى المبيعات في العالم كله.
وأهم ما فيها هو أنها لا تمنح للكتاب الفرنسيين فقط، وإنما لأي كاتب يكتب باللغة الفرنسية، لكني لست واثقاً فيما لو كان ضرورياً أن يكون هذا الكاتب غير الفرنسي يحمل الجنسية الفرنسية أم لا. فقد فاز بها الطاهر بن جلون، وأمين معلوف الذي أصبح عضواً في الأكاديمية الفرنسية منذ سنة. ولكني أعرف ربما بعض المعايير التي تستند إليها اللجنة في منح الجائزة. يكفيك كعربي مثلاً أن تقدم للفرنسيين، وبلغتهم، صورة الشرق التي في مخيلتهم الجمعية. هم يريدون تكريس هذه الصورة لئلا يكتشفوا أنهم كانوا مخطئين من قبل في تعميمها. الطاهر بن جلون لم يقصّر في ذلك أبداً في روايته «ليلة القدر»، لا عربياً ولا إسلامياً، فقد قدم العرب بوصفهم مجرمين وقتلة ومهربي مخدرات ومخترعي البغاء ونشره في فرنسا. وقدم صورة المجتمع العربي بوصفه مجتمعاً قبل البدائية، منحلاًّ أخلاقياً، على الرغم من كل ما قدمته الديانتان الإسلامية والمسيحية.
هذا نموذج من الروايات التي فازت بهذه الجائزة، واللجنة تريد تعميم هذه النماذج على الطلبة الجامعيين بحجة المشاركة في الاختيار، بينما الهدف الحقيقي هو أكبر من ذلك وأكثر أهمية بالطبع. لم تعد الثورة الفرنسية أنموذجاً يُحتذى به في عالم ما يسمى بالثورات المعاصرة. وصار لزاماً على الفرنسيين الذين اكتشفوا أنهم أصبحوا في مؤخرة القافلة المؤثرة، أن يستعينوا بالورقة الثقافية، لعل وعسى!
_______
*(الإمارات اليوم)