عندما تصير الجدران والحواجز سبباً للتمرّد


*عبد السادة جبار

ثمّة أعمال سينمائيّة بارزة في تاريخ السينما العالميّة، تشكّل علامات مميّزة أو انعطافات تاريخيّة في هذا الفنّ الخطير لا يمكن نسيانها على الإطلاق، ومن المؤسف أن لا يطلّع عليها كلّ جيل يعشق السينما، أو أن يتعمّق بدراستها طلبة الفنون الجميلة بشكل عام وطلبة السينما والمرئيات بشكل خاصّ لأنّها تشكّل أرشيفاً متجدّداً لمن يبحث عن المتعة الواعية، ولمن يسلك طريق الإبداع في صنع سينما معاصرة تتناسب مع الخطاب العصري، فيلم “ الجدار” ليس عملاً قدّمه المخرج الانجليزي المخضرم “ ألن باركر “، فهو تحفة سينمائيّة جمالية تشكيليّة موسيقيّة بتمثيل درامي ورسوم متحرّكة بأسلوب تعبيري وثائقيّ سياسيّ وسرياليّ، والفيلم إلى الآن لم يفقد دعوته الفلسفيّة والسياسيّة لتحطيم الجدار الذي يحول دون أن يتجاوز الإنسان الصنميات الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة والعقد المتراكمة نتيجة لطرق التربية والتعليم الخاطئة والمسلمات التقليدية في العلاقات الإنسانية، وما يجعل من الفيلم تحفة فنيّة خالدة، ذلك التعاون في صنع عمل متماسك بين كاتب السيناريو وكلمات الأغاني” روجرر واترز “والمخرج المبدع “ ألن باركر “ ورسام الانميشن (الرسوم المتحركة)” جيرالد سكارف”، وموسيقى وأغاني فرقة الروك الإنجليزية الشهيرة “ بينك فلويد “، هذه الفرقة التي قدّمت أجمل الأغاني وحصلت على شهرة واسعة في الأوساط الموسيقية العالميّة، وفي الواقع إنّ مؤسّس الفرقة هو روجر واترز نفسه لم يزل يقدّم موسيقى هذا الفيلم في المهرجانات، حيث كان آخر عرض قد قدّمه في برلين هذا العام وله من العمر سبعون سنة حيث استقبل العرض بحفاوة بالغة.

سيناريو الفيلم
اعتمد السيناريو على حكاية قد تبدو بسيطة لكنّها مهمة جدّاً، وهي عبارة عن تخيّلات وطموحات عدوانية لشاب يختزن في ذاكرته ماضي قاسٍ عن حياته العائليّة والاجتماعيّة، “بينك “ الممثل (كلدوف بوب ) فقد والده في الحرب وهو طفل عاش يتيماً عانى من ضغط الانعزال والتعامل غير الإنساني في المدرسة من مدرس قاسٍ مستبد “ماكفوي اليكس “ الممثل (هاريكريفر كرستين ) يعرضه للسخرية والامتهان ولم يجد من يدافع عنه، كانت تنمو في داخله مشاعر الانتقام، وجد في بدلة أبيه العسكرية والاطلاقات النارية في دولابه وسيلة لدفعه إلى تخيّل نفسه زعيماً سياسياً في حزب قوي يجبر الآخرين على أن يخضعوا لإرادته ويقتنعوا بقيادته، يتطوّر خياله معه عندما يشب ليقدّم لنا الفيلم تلك الرسوم المتحركة المرعبة، يتحوّل أنصار الحزب إلى مطارق تمشي بانتظام كأنهم جيش منظَّم, يقتحمون الأمكنة يبتلعون الناس, تتحوّل الزهور إلى حيوانات غريبة تبتلع بعضها البعض، الحَمَام الأبيض الجميل يتحوّل إلى طائر عملاق يشبه الوحش ويتحوّل إلى كائن معدني, الأشخاص يرتدون أقنعة الأوكسجين سرعان ما تتحوّل إلى وجوه لهم ليمكنهم التخلّص منها ويمشون كقردة، ودائما هناك جدار يسجن كائناً ضعيفاً يهاجمه وحش، ثمّ يعيدنا الفيلم إلى الواقع حيث يستيقظ “بينك” من خياله المريض ليواجه ضعفه وانسحاقه، الفيلم هنا يرسم طموحات شاب يشعر بالدونية بسبب الإهمال واللاأبالية السياسيّة والاجتماعيّة، وبسبب عصر المكننة والسلعية البغيضة التي تجرد الإنسان من العلاقات الإنسانية، يماهي المخرج بين الحروب ومآسيها وبشاعتها وبين قمع تظاهرات الشباب بعنف ليوحي بانّ السلطة لا تميز بين العدو وبين المواطن الذي يطالب بالحصول على حقوقه، يصبح الجدار وسيلة لتطويق حريّة الضعيف، أحلام “بينك” هي الوسيلة التي يلجأ إليها لتحقيق التوازن الداخلي لحالته النفسيّة المنهارة، وعندما يكتشف إنها مجرّد أحلام غير مؤثّرة يصب غضبه على الأشياء التي تحيط به، يحطم كلّ شيء حوله الأثاث الزجاج جهاز التلفاز لينهار ثمّ يعود إلى خياله، من الصعب تفسير كلّ مشاهد الفيلم؛ لأنها لا تتضح إلا بالمشاهدة الفعلية كونها ليست مشاهد حكائية، بقدر ما هي عبارة عن صور تعبيرية تتوازى مع الموسيقى والأغاني لتشكل معاني تحذيرية من ثورات فوضويّة تدميريّة، ثمّ يطرح البديل فكان المشهد الأخير تدمير للجدار، ويعمل مجموعة من الأطفال لنقل الأنقاض، ويجد أحدهم زجاجة معبأة بالبنزين لتستعمل قنبلة، ينزع عنها الفتيل ويفرغ السائل منها لينتهي الفيلم. 
المعالجة
لم يعتمد الفيلم حوارات طويلة، و يكاد أن يخلو من ذلك إلا ما ندر، ولهذا تبدو ترجمة الفيلم غير ضرورية جداً إذ بالإمكان الاستغناء عنها إلا ما يتعلق بمعاني الأغاني، إذ كانت فرقة “ بينك فلويد “ بمنزلة جوقة تعبر عن الأفكار التي قصدها السيناريو، وشكلت الرسوم السريالية المتحركة تجسيداً من نوع خاص لمعان تكثف الأحداث التي لم تكن تقصد البطل نفسه فقط، بل شكل بينك رمزاً لجيل كبير وواسع يمثل أولئك الذين فقدوا مربيهم وقد تم إهمالهم، صوّر المخرج مشاهد الفيلم الدرامية بزوايا غير تقليدية، فهو يقفز من اللقطة القريبة جداً إلى اللقطة البعيدة، نشاهد جزءا من يد البطل، ثمّ جسم البطل وهو يسير بعيداً عبر الأفق، وكرّر مثل تلك الانتقالات إضافة إلى نقلنا من لقطة لجسم يتحرك بسرعة إلى جزء آخر ساكن تماماً، تلك الصدمات التصويرية غير التقليدية كسرت رتابة التسلسل التقليدي، كما في الأفلام العادية لتدربنا على مشاهدة للسينما من نوع خاصّ لتكوين حافز سيكولوجي يحرّك الحواس البصرية في نقل التفسير الأسرع إلى خلايا المخ وملاحقة الرموز، التي يزخر بها الفيلم، كما استعمل أسلوب ( الفلاش باك) بطريقة متوازية ليذكرنا كلّ مرة بالبدايات المسؤولة عن الحاضر والمستقبل، في مجال الأداء في الواقع نهض الممثل جيلدف بوب بالدور الرئيس وكان اداؤه الناجح عنصراً مهماً في تجسيد تلك المشاعر الدفينة والصور المتخيلة، وامتلك القدرة على أن يجعلها تطفو على جغرافية ملامحه في حالتي السكون المطبق وحالات التمرد والهيجان التي كانت تنتابه، ولا نريد أن نعيد ما لتلك الرسوم المتحركة والموسيقى والأغاني من دور بل نقول إنها تقاسمت البطولة مع جهد المخرج، ألن باركر حظي بتكريم إدارة الأكاديمية البريطانية لفنون الفيلم والتلفزيون “بافتا” حيث منحت المخرج الإنجليزي لقب “الزمالة”، وجائزة عن مجمل أعماله في حفلها السنوي هذا العام، وقد تم منح هذه الجائزة للمخرج ألفريد هيتشكوك، وستيفن سبيلبيرج، شون كونري، جودي دانيش، فانيسا ريدغريف، كريستوفر لي، ومارتن سكورسيزي، بدأ ألن باركر مشواره كمخرج إعلانات تليفزيونية وكان فيلمه الأول “باجزي مالون” عام 1976، ثم فيلمه الرائع “قطار منتصف الليل” 1978، ومن أفلامه “شهرة” 1980، و “ الجدار “ 1982، وآخر أفلامه “حياة ديفيد جيل” 2003. وقد عبر عن هذا التكريم بالقول “أشعر بالفخر والسعادة، فعندما تصنع فيلمك الأول، تكون على يقين أنه الأخير، وبعد ذلك تغمض عينيك وتفتحهما وتجد أن 40 سنة قد مرت وها أنت تكرم من قبل البافتا”.
فيلم “ Pink Floyd The Wall”سيناريو وأغاني : روجرر واترز.
رسوم متحركة : جيرالد سكارف.
إخراج : الن باركر .
تمثيل : كلدوف بوب ، هاريكريفر كرستين.
الغناء : فرقة ( بينك فلويد ).
________
*الصباح الجديد

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *