*محمد الأسعد
تمتلك قبيلة “البامبارا” الإفريقية قيثارة مقدسة تتصدر احتفالات الأضاحي ومراسيم التطهير والعلاج والتكريس، وتلعب دوراً مهماً في التأملات الفردية، وفي مناسبات أخرى مثل الإعلان عن الحلّ والترحال والخصب والقحط، أو دعوة الناس للامتثال للأوامر، وقد توضع بهدوء بجوار بحيرة فيدل وجودها على الطمأنينة والسلام .
وقبل أن يبدأ الموكل بها العزف على أوتارها، يدنو بفمه من صندوقها ويهمس مخاطباً سيد الكلمة المقدس: “والآن جاء دورك . . فهلم ننظم العالم” .
هذا الطقس الذي مارسته إفريقيا مئات السنين يبدو الآن مجرداً من مضمونه وغايته . إن أصوات ملايين الجياع ستطغى على هذه الهمسة، هذا إذا ظل هناك حتى الآن من يؤمن أن سيد الكلمة سينهض مجدّداً وينظم العالم بعد أن اختلّ إلى درجة بائسة . ولا شك في أن العازف المذهول والمستمعين المنتظرين سيشعرون قبل غيرهم بهذا الاختلال، القيثارة لم تعد تستجيب، وسيدها الموجود هناك، إذ إنها ترمز إلى ضريحه، لم يعد موجوداً فعلا، ولم يعد العزفُ إلا طقساً من الطقوس اضمحل مضمونه لسبب من الأسباب، ولم تعد الحركة، حركة العازف والأوتار، تتجاوز حركة السمكة الخرساء بعد أن أخرجت من الماء .
هل هناك من يأمل الآن في أن ينهض سيد الكلمة من ضريحه لينظم العالم كما كان يحدث في الماضي؟ بعبارة أوضح: هل هناك من يثق بأن الثقافة قادرة مجدداً على تنظيم العالم وإعادة التوازن إليه وإنقاذ الكرامة الإنسانية؟
لا يبدو هذا السؤال إفريقياً بحتاً إلا بحكم الحدث الراهن حيث تحتضر شعوب بأكملها فتعجز فنونها وثقافتها وطقوسها ومؤسساتها عن إنقاذها . أما حقيقة الأمر فهو سؤال يتردد في كل اللغات، وبخاصة في لغات هذا الحزام الأرضي الممتد من جاكارتا إلى كاراكاس، مروراً بمدغشقر وطنجة .
وفي سياق الأجوبة يبدو أن بعضهم ما زال يعلق قيمة سحرية على مفعول قيثارة البامبارا، وبعض أسقط عنها كل قيمة وحولها إلى المتحف .
الخلاف الأساس ليس هنا، بل هو في تعليل هذه القوة التي كانت للثقافة، وهذا الضعف الذي انتابها في الوقت الراهن .
***
يميز الباحثون بين مفهومين للثقافة، الأول هو المفهوم الغربي الذي يضعها ويضع عناصرها في دوائر منفصلة ويعزلها عن مظاهر الحياة اليومية، والثاني هو المفهوم الإفريقي أو الشرقي بعامة الذي يجعل الثقافة جزءاً من الحياة لا ينفصل عنها . وبسبب طغيان المفهوم الغربي، وبخاصة أطروحته حول صفة “عالمية” الثقافة، تحولت نظرة الأفارقة والعرب والآسيويين إلى ثقافاتهم تحولات خطرة ذات مغزى في سياق انحلال أنماطهم الإنتاجية . لم يعد صندوق القيثارة الصامت الذي لا يستجيب للرجاء قضية إشكالية بل ظاهرة طبيعية من طبائع التطور والتحضر، أو ما يسمونه الدخول في القرن العشرين، أو القرن الحادي والعشرين حالياً، أو هو مأساة لابد منها كثمن ندفعه في سبيل التطور . ألم تظهر دعوات يزعم أصحابها أن الفنون والثقافة بعامة هي ميراث مرحلة الطفولة البشرية؟ ألم نجد من يترحم على أيام الشعر التي ذهبت بلا عودة؟
صندوق القيثارة الصامت وسيد الكلمة وهمسة العازف، كل هذا لم يعد قادراً على تنظيم العالم فعلاً، ولكن ليس بسبب من طبيعة الفن والثقافة، بل بسبب الخلل في بنية واحدة ليس الفن والثقافة إلا عنصراً فيها، تلك هي بنية النظام الاجتماعي .
إذا رجعنا إلى توصيف فاعليات الثقافة في كيان الجماعات، نجد جذرها الأساس يكمن في كون الثقافة عنصراً بنائياً، بمعنى أنك لا تستطيع أخذه وفهمه، لا كوسيلة أو وظيفة، إلا في سياق بنية النظام الأشمل، في السلوك والمؤسسات وتنظيم وسائل الحياة من أكثرها ضآلة إلى أشدها تعاظماً .
يخيل للبعض أحياناً أن العنصر الجمالي الذي تمتلكه أداة من الأدوات هو عنصر منفصل ومعزول يمكن أن يقوم بذاته، ومن هنا يأتي افتعال “الأدوات” وكل ما يمت إليها من الأوصاف بصلة، ومن هنا يأتي الانتشار الواسع للنزعة الطقسية في الفن والثقافة .
وإذا كان “الطقس” يمارس لتثبيت صلة ما بين الإنسان والقيم، بين الإنسان والآخر، بين الجموع والأرض، أو كما يقال عادة من أجل تفجير المقدس وانبثاقه في مجرى اليومي والعادي، فإن كل هذا يتحول في ظل النزعة الطقسية إلى إشارة بلا معنى، ذلك لأنه لا يستند إلى علاقة ما . وحين تضمحل الإشارات والعلائق المنظمة لمجموعة بشرية تتحول طقوسها فعلاً إلى حركات خرساء، وتعجز عن استنهاض رغبة التنظيم ومقاومة الخلل في المجتمع والطبيعة .
***
هكذا إذاً تبدو مشكلة الثقافة جلية، إنها تندرج في إطار تاريخي واسع، وهي ليست رهينة لحظة زمنية، كما أنها ليست رهينة أبحاث في طبيعة الفن والثقافة ونفسية الجمهور . إنها رهينة انحلال أو نمو أنماط الانتاج الاجتماعي والاقتصادي . فهذا الإفريقي الذي يميل على قيثارته كان واثقاً أنه يستطيع استدعاء سيد الكلمة فعلاً في ظرف محدد كانت فيه القبائل الإفريقية تعيش لذاتها وليس لغيرها، وكانت تمتلك نمطها الإنتاجي القائم على استثمار الأرض وعلى العلاقات بين تجمعاتها البشرية، وكانت وظيفة الثقافة أن تهب لهذا النمط معناه في الوعي الجماعي .
وقبل أن تُنهب كنوز “الأشانتي” ومصر، وقبل أن تُخلع القبائل الإفريقية عن أنماطها الإنتاجية، فتضمحل صناعات النسيج في بنين، ويُقذف بقبائل “الإيبو” إلى المناجم البريطانية، قبل كل هذا، كان التناغم قائماً، ليس بفعل الكلمة وإنما بفعل سيد الكلمة: الإنسان .
ولعله ليس مصادفة أن يسمي الإفريقي هذا النهب والاستعباد والخلع بالقوة دماراً للآلهة القديمة والتقاليد والأعراف وروح القبيلة، ويعتقد أن الأوروبيين الذين يضغطون عليه ليبيع ماشيته إنما يسلبونه روح البقاء والحرية . وفي المقابل ليس مستغرباً أن يسمي الأوروبي هذه الوقائع المهلكة بأسماء مختلفة، فهي في نظره “تكيّف” و”تغيّر” و”تحضّر” .
إنه الصدام بين عالمين وثقافتين ووجودين، الصدام الذي تعيشه مع إفريقيا جملة واسعة من الشعوب مسلوبة الروح لأنها سُلبت قبل كل شيء طرائقها الخاصة في التعامل مع العالم، وتقاناتها الخاصة في ابتكار وسائل حياتها، أي أنها سُلبت حريتها الخاصة حقاً .
لهذا يتحول الخطابُ الروحي الذي لا يغزو هذه الأعماق ولا يتصل بهواجسها إلى طقسٍ مجرد، إلى عازفٍ يطلق همسة ويبدأ العزف، وإلى جمهور ينتشي ويبدأ بالرقص من دون أن يدرك، لا العازف ولا الجمهور، أن هذا الطقس لن يروي الأرض العطشى، ولن يشبع الأطفال الجياع، ولن يوقف زحف التفكك والانحلال القادمين .
هنا، في النزعة الطقوسية، يتحول الفن إلى عكس وظيفته تماماً، إلى مخدر إضافي، وتتحول الثقافة إلى عكس وظيفتها تماماً، إلى صرير أقلام وقرع صنوج وتنظيم مقاعد في القاعات .
لا نعني إفريقيا فقط، بل كل هذا العالم الذي سُلب نمط الخاص في التعامل مع الطبيعة ومع نفسه، فظن أن روحه بخير، وأن سيد الكلمة المقيم في القيثارة لا يزال مقيماً، بينما هو قد فقد روحه منذ أن فقد وسائل عيشه .
إن مأساة عازف القيثارة ليست ثمناً لهذا الذي يسمى تطوراً، بل هي ثمن الوعي الغائب الذي لم يعد يلتقط إلا شبح الوجود وظلّه، بينما تغيب مادته وتضمحل .
________
* شاعر وناقد من فلسطين.
(الخليج الثقافي)