*أنطوان جوكي-باريس
محمود درويش ليس فقط شاعر فلسطين الأهم وأحد أبرز وجوه الشعر العربي الحديث، وإنما هو أيضاً ناقد من الطراز الأول ترك لنا في هذا المجال نصوصاً كثيرة تناول فيها ببصيرة نادرة مواضيع سياسية وشعرية راهنة.
ولأن الجمهور الفرنسي الذي يعرف درويش الشاعر جيداً يجهل هذا الجانب من نشاطه، أصدرت دار “Actes Sud” الباريسية كتاباً يتضمن مختارات من أبرز نصوصه النقدية، نقلها صديقه ومترجم أعماله الشعرية إلياس صنبر.
يشار إلى أن معظم هذه النصوص مستقاة من كتاب “حيرة العائد” (٢٠٠٧) الذي جمع فيه درويش مقالاته ونصوص مداخلاته الشفهية التي كتبها بعد عودته إلى فلسطين عام ١٩٩٣. أما النصوص الأخرى فمستقاة إما من كتاب “في وصف حالتنا” (١٩٨٧) الذي يتضمن المقالات التي كتبها في مجلتَي “شؤون فلسطينية” و”الكرمل”، وإما من كتاب “عابرون في كلام عابر” (١٩٩٠) الذي يتضمن جزءاً من مداخلاته في مجلة “اليوم السابع”.
عودة بعد غياب
القسم الأول من الكتاب يتضمن خمسة نصوص رصدها درويش لإشكالية العودة إلى فلسطين بعد غياب قصري دام سنين طويلة، عودة تدفع الشاعر في البداية إلى التأمل في الاختلاف بين جمال الأسطورة وغموض الحاضر، وبين واقعية الحلم وعبثية الواقع، وبالتالي إلى طرح مجموعة أسئلة جوهرية، أبرزها: هل ستتضمن أرض الحلم ما تبقى من حلم فينا وفيها؟ وكيف يمكن تحويل موطئ القدم هذا في فناء خلفي مزروع بالفخاخ والفقر إلى حياة تؤسس لحضور بشري قادر على التطور وعلى تحطيم قيود الاختلاف بين دولة ووطن؟
وتقود جميع تساؤلات درويش إلى سؤال واحد يطرحه في النص الثاني: هل الفلسطيني القادم إلى وطنه قادر على أن يكون طبيعياً داخل واقع غير طبيعي؟ سؤال بديهي ومشروع في ظرف يستحيل فيه إلقاء صفة “السلام” الجميلة على الحصار العسكري المفروض على المجتمع الفلسطيني، أو صفة “التعايش” على وضع يُمنع فيه الشعب الفلسطيني من تحقيق “التعايش الجغرافي” بين مدنه وقراه وأريافه.
وانطلاقاً من هذا الاستنتاج يعتبر الشاعر في نصه الثالث أنه من غير الطبيعي أن يخوض الفلسطينيون اليوم في مسائل التطبيع مع أيٍّ كان، وأن يرضخوا إلى طلب تطهير ذاكرتهم مما تبقى فيها من مفردات الصراع، وتعديل قراءتهم للتاريخ والاعتذار عن سيرتهم، في الوقت الذي تستمر فيه المستوطنات الإسرائيلية في تقطيع جسد وطنهم وابتلاعه، ويستمر العدو في إنكار أبسط حقوقهم في الاستقلال والعيش الطبيعي وفي رفض التعامل معهم كشركاء في مسيرتهم إلى الأمام.
ويختم القسمَ الأول نصّان مؤثران يسترجع الشاعر فيهما بعض ذكريات طفولته في الجليل ثم في جنوب لبنان كلاجئ، فرجوعه إلى حيفا حيث اختبر السجن والإقامة الجبرية، قبل أن تبدأ رحلة المنفى الطويلة التي لم تنته -وفقاً له- بعودته إلى غزة.
ويتضمن القسم الثاني من الكتاب ستة نصوص حول الشعر وبعض الشعراء يتصدرها نص يقر درويش فيه بالدور الريادي للشاعر العراقي السياب، في إحلال قطيعة مع لغة الماضي والإرث الشعري القديم، يتبعه نص يدعو درويش فيه الشعراء العرب إلى المشاركة في عملية تحديث الشعر الدائرة، بدلاً من استهلاكها كسلعة، عبر الاندماج بالشعرية العربية القديمة وتجديدها بدلاً من الإفلات منها.
صراع ضد الموت
ويعتبر الشاعر في النص الثالث أن مسألة الحداثة ستبقى غريبة عن مجتمعنا العربي طالما لم تُدمج بسيرورة التحرر، مشيراً في هذا السياق إلى أنه لا يوجد أسوأ من الشعر السياسي المحض إلا الشعر الذي يحتقر السياسي بمعناه النبيل ويعزل الشاعر عن الكائن الجماعي والمجتمع.
ونقرأ في هذا القسم أيضاً نصاً يرى درويش فيه أن الشعر بتأويلاته ومستوياته العديدة هو صراع ضد الموت، لكنه أيضاً صراع ضد ذاته وضد موته الطوعي حين يقع في “التقليدية والشكلانية والكليشيه”.
وحين يستمتع بأشكاله الضيقة واستعاراته المصطنعة وخياله المدجّن، كما نقرأ نصاً يدافع درويش فيه عن حق الشاعر الفلسطيني في الاحتفاء بمختلف تجليات الحياة الذي هو أيضاً نوع من المقاومة ودليل على أن الاحتلال لم يتمكن من قتل الحياة فيه وفي مجتمعه.
ويختم هذا القسم نصٌّ حول اغتيال الشاعر الإسباني لوركا، ونصّان خصّصهما درويش للشاعرين السوريين: ممدوح عدوان الذي شعر معه بتواطؤ كبير في الشعر والحياة، ومحمد الماغوط الذي شكّلت تجربته الشخصية -في نظر درويش- المصدر الأول لحداثته الشعرية.
أما القسم الثالث من الكتاب فيتضمن نصوصاً وداعية رصدها درويش لأصدقاء له توفّوا قبله، كالشاعر توفيق زياد والكاتب إميل حبيبي والرئيس ياسر عرفات والمؤرخ والصحفي سمير قصير والكاتب غسان كنفاني.
ويجمع القسم الأخير نصوصاً حول مواضيع متفرقة، كمجزرة صبرا وشاتيلا، وبرابرة القرن العشرين، والقراءة الإسرائيلية المغلوطة والخبيثة لقصيدة “عابرون في كلام عابر”، والوعي التدريجي داخل المجتمع الإسرائيلي لجور سياسة إسرائيل منذ تأسيسها، والتجاهل العربي للقضية الفلسطينية.
___________
*( الجزيرة)