غنى التجربة الخفي


*إبراهيم صموئيل

خوض التجربة في الأدب ليس لغاية حصول الكاتب على المعلومات ومعرفة موضوعه، فهذه -على ضرورتها وأهميتها- يمكن تحصيلها عبر “بنك المعلومات” من دون خوض التجربة بشكل شخصي، خصوصا حين يكون موضوع العمل الأدبي متعلقا بمنعطفات ووقائع تاريخية، وبالوقوف على أسبابها وآثارها وانعكاساتها على الحاضر.

العديد من أدباء العالم كتبوا عن تجارب كثيرة، ومتنوعة، من دون أن يخوضوها لأنها لم تقع في أزمانهم. رجعوا إلى كتب التاريخ، وأعمال أدبية لكتاب جربوا، وسير ذاتية منشورة، وأبحاث ودراسات نفسية اجتماعية تاريخية، وإلى وثائق مرئية ومكتوبة، ثم أضافوا من مخيلتهم، وأنجزوا أعمالهم، وبعضهم أجاد.
على الأغلب يعيش الكاتب التجربة ويعايشها، يخوض غمارها، فتتحول إلى “مادة خام” لنتاجه الإبداعي فيما بعد. بيد أن بعض الكتاب يرغبون أحيانا في الكتابة عن موضوعٍ رغم عدم خوضهم تجربته مثل السجن، والمنفى، والمرض الحامل للموت، والفقر المدقع، فيلجؤون إلى تجارب الآخرين وشهاداتهم وما كتب عن الموضوع، بحيث تتشكل لديهم “معرفة” بالتجربة.
عبد الرحمن منيف -على سبيل المثال- لم يُعتقل ولم يُعذب، ولم يعش تجربة السجن، غير أنه كتب عنه وعن السجناء في روايته “شرق المتوسط 1975″، بل وعاود الكتابة عن الموضوع نفسه في روايته التوأم “الآن هنا/ أو شرق المتوسط مرة أخرى 1991”.
وكذا فإن اغتصاب فلسطين ومحنة اللاجئين لم يتناولها أبناؤها فقط ممن اقتلعوا وهُجِّروا، وإنما كتب عنها العديد من الأدباء العرب أيضا أبناء بلدان غير فلسطين.
ومشاعر المرأة، وتجاربها، ومعاناتها لم تنحصر بأدب الكاتبات، فثمة كتّاب كثر كتبوا عنها، وأجادوا في التعبير عن عوالمها، كما هو حال كاتبات عبَّرن عن دواخل الرجال وعوالمهم، وأجدن التعبير.
بهذا المعنى، الموضوعات ليست حكرا على من جرّبها وخاضها، لكنّ “معرفة” التجربة وتحصيل “المعلومات” لا يعدوان الوجه الذهني البارد للتجربة، أمّا التجربة نفسها، الخوض فيها، الاكتواء بنارها، والهناء بنعيمها، ومعاينتها حية، والمعاناة منها.. فهي شيء آخر تماما.
أقول: إنها شيء آخر (وقد سبقت الأمثال الشعبية إلى التأكيد على أن مَنْ جرّب ليس كمن سمع أو رأى)، لأن المعلومة عن التجربة، ومهما كانت بليغة، ليست التجربة. الحرب ليست موت المحاربين، والسجن ليس التعذيب الجسدي للسجناء واحتجازهم، المرض ليس الألم الناتج عنه وقلق الموت المصاحب له. 
مثل هذا -في التجارب الكبرى- لا يعدو العناوين العامة، الشائعة، المبسّطة، والمتفق عليها بين معظم الناس.
مَنْ يخوض التجربة بنفسه، أو يُزجّ به في أتونها، سيلمس وجوها أخرى، وتتكشّف له جوانب خافية، مذاقات مغايرة لما عرف، رؤى ليست شائعة، زوايا مختبئة، رائحة لم تُدوّن، أصوات لم تُذكر فيما كُتب.
ستنفتح أمام الخائض بوابات ونوافذ وكوى، يدلف منها نحو مواقف، ولحظات، ومشاعر، ومواجهات، وانكسارات، ومسارب، ومنحنيات، وكهوف لم يضمّها “بنك المعلومات”، ولم تشملها المعرفة والتعريفات على تنوّعها.
عبر حواسّه الخارجية، وإحساساته الداخلية، سيجد الخائض نفسَه في حقول بكرٍ لم يطأها من قبل، في رعشة بكر لم تهزه من قبل، في دهشة الاكتشاف التي لم تخطر على باله قبل خوض التجربة. وها هنا يكمن الفارق الحاسم بين الخائض بشخصه والعارف بذهنه.
أبعد من ذلك وأعقد هو أنّ التجربة الواحدة متعددة الأوجه والأثر بتعدد أصحابها، إذ سنلتقي سجينين، عاشا في سجن واحد، ولمدة متساوية، وفي مجمع واحد، وخضعا -إلى حدٍّ ما- للتعذيب الجسدي المتشابه، والحصار والحرمان والوحشة المتماثلة… غير أن كل واحد منهما سيروي “تجربته الخاصة” التي لا تختلف فقط عن تجربة الآخر، بل ربما تتباين معها.
لا أعني بهذا أنه لا قواسم مشتركة بين التجارب الكبرى للبشر، إذ يستحيل ذلك، وإنما أرمي إلى التركيز على جانب الاكتشاف المغاير والجديد الذي لا يمكن حدوثه إلا عبر التجريب الشخصي المباشر.
فعلاوة على كون التجربة تعطي صاحبها أسرارها وخفاياها -التي تضنّ بها على مُحصِّل المعرفة عنها- فإنها تتغير وتتبدل مع كل مجرّب جديد! يتكشّف فيها لهذا ما لم يتكشف لذاك، ويُضاف إليها مع مجرّب بعينه ما يغاير ما أضافته إلى شخص آخر.
فتنوع البشر ينوّع التجربة نفسها, وتغاير الخائضين يغاير من ملامحها ومعطياتها. ستتمثل الحرب حروبا لدى المحاربين، وسيكون السجن سجونا بعدد السجناء، ويكون المرض أمراضا، والموت ميتات، وهذا التنوع هو ما يُثري الكتابةَ، ويجعل الكتّاب -خاصة المجرّبين- يتناولون الموضوع نفسه على مرور الأجيال والأزمان، دون خشية من تكرار لما سبق أن كُتب، على المبدأ المعروف بأنه لا يمكن الاستحمام في مياه النهر مرتين، لأن المياه تتغير، ويتغير المستحم أو تتغير حالته الداخلية.
من هنا، تبدو الكتابة الأدبية عن التجارب الكبرى في حياة البشر، مفتقرة إلى شيء ما، إذا ما كان صاحبها متكئا إلى “معرفة” التجربة من خلال المكتوب أو المروي عنها. 
سيُبالغ العمل الأدبي -أو سيُجحف بحقها- سيتزيّد أو يقصّر, وإن حاذر الكاتب، وتنبّه، وأبدع في تصور التجربة وتمثلها، ستخسر كتابته اكتشاف المغاير، المختلف، ولن تعدو -في هذه الحال- المتوسط الحسابي لتجارب الآخرين.
ذلك “المتوسط” الذي لا يُنفّر، ولا يشذ, لكنه لا يترك بصمته الخاصة، وذائقته الخاصة، وزاوية رؤيته الخاصة، التي لا يمكن التوصل إليها إلا بخوض التجربة لاكتشاف الجديد في الذات المجربة، وفي التجربة ذاتها.
_____________
*الجزيرة

شاهد أيضاً

ليست مرثيّة لإميل حبيبي

(ثقافات) ليست مرثيّة لإميل حبيبي: الإنسان في جوهره مرزوق الحلبي عندما اتخذ الحزب الشيوعي قرارًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *