*صــلاح بوســريف
أُدْرِكُ جيِّداً، أن مُهِمَّة المفكرين، والمُبدعين، والكُتَّاب، ممن يعملون في حقل الرُّموز والدَّلالات، وأيضاً الباحثين، ممن يكتفون بالعمل داخل أسوار الجامعة، هُم، أصحاب أفكار ومشاريع، تفرض نوعاً من العزلة، والانكماش على النفس، للتفكير، والتأمُّل، والبحث، واستشارة مراجع ومصادر المعرفة والجمال، قبل وضع الكلمات على الورق.
فكل عمل يخرج من يَدِ’كاتبٍ، هو ثمرة جُهْد فكريّ، لا يمكن تَصَوُّر ما يتركُه خلفَه من عَنَاء وألَم، خصوصاً حين يكون الكاتِب صاحبَ أفكارٍ وخيالات، وصاحب مشروع، يعمل عليه كُلَّ وَقْتِه، أو يُكَرِّس له حياتَه. كما أُدْرِكُ أنَّ مُهمَّة هؤلاء، هي مُهمة شاقَّةٌ، محفوفةٌ ، بالمصاعِب، وبكثير من التضحيات، مما تفرضه طبيعة العمل في هذا الحقل الفكريّ الجماليّ، أو الإبداعي، الذي لا يَجِدُ من يُقَدِّر قيمَتَه، أو ما يمكن أن يكون له من أهمِّيَةٍ في تغيير الواقع، وفي وضع الإنسان في سياق كينونته التي أصبحت مُتلاشِيَةً، ضائِعةً، بَدَّدَتْها قِيَمُ الاستهلاك، والتَّسْليع، والمَكْنَنَةِ، والرغبة في الرَّفاه، دون ما يستدعيه هذا الرَّفَاه، نفسه، من قِيَم يكون الإنسان هو من يَخٌلُقُها ويَبْتَدِعُها، باعتبار ما قد تحمله من فكر قابل للسيرورة والحياة، وأعني، طبعاً، فكر الحداثة والتنوير، لا فكرَ الضَّلالة والتكفير”.
لكن، هل يكفي أن نبقى مُقِيمين في ذواتِنا، وحْدَها، نخرجُ على الناس بما نكتبُهُ، دون أن نكون حاضرين في السَّاحات العامة، وفي ما يجري من نقاشاتٍ، السياسِيُّ، و’رجل الدِّين’، هُما من يقودانِها، خصوصاً في مجتمعاتٍ مثل مجتمعاتنا، وفي واقع مثل واقعنا، بما يعرفه من تَمَلْمُلاتٍ، ورَجَّات، لا أحد يعرف ما سَتُفْضِي إليه؟
ليس مقبولاً أن نكتفي بإصدار أعمالنا، وبالبقاء خارِجَها، أعني أن نترك هذه الأعمال عُرْضَةً للإهمال، أو سوء القراءة والفَهْم، في حالةِ ما وَجَدَتْ من يقرأُها، أو يَلْتَفِت إليها. فما نراه في مصر، وتونس، وليبيا، وسوريا، وغيرها من البلاد العربية التي انْهَارَتْ فيها المدرسة والجامعة، وانهارَ فيها الكِتاب، أو انهارتْ فيها المعرفة، هو تعبير عن انهيار شاملٍ، لم يَمَسّ بنيات الثقافة والمعرفة، بل مَسَّ الإنسانَ، وجرَّدَه من قدرته على المعرفة، والملاحظة، والتمييز.
المثقف اليوم، في ما يجري من أحداث على الأرض، مدْعُوٌ للخروج من ذاته، ووَضْع نفسه رَهْن ما يجري، ليس بالسَّيْر معه، أو مُسايرتِه، فهذا ليس عمل المثقف، أو المفكر والمبدع، بل بتفكيره، ومُساءلته، وبوضعه في سياق المعرفة، بما تقتضيه من عُمْق، وبُعد نظرٍ، ومن مُراجعةٍ للمفاهيم، ولِما كان، بالأمس القريب، بين أدوات عمله، التي يبدو أنها أصبحت، اليوم، على المحك، لِما دَخَل عليها من معطيات جديدة، ولِما أصبح يفرضه تسارُع الأحداث والوقائع والمُعطيات، من اختبار للأفكار، والمرجعيات، ولِما كان يقيناً إلى وقتٍ قريبٍ.
دُخُول المثقف على خَطِّ الشَّأْن العام، لا يعني ابْتِذال مشروع المثقف، وما يعمل عليه من أفكار، فحين يتنازل المثقف عن أفكاره، أو يَبْتَذِلُها، فهو يكون تَخَلَّى عن الأساسات التي عليها أقام صَرْح هذه الأفكار، وهذا ليس مُراجَعَةً، بقدر ما هو انْتِكاس وتراجُع. فالمثقف مدعوٌ لدخول النقاش العام بلباسه، أعني بأفكاره، ومشروعاته، وبما يحمله في نفسه من أسئلة، ومشاغل، وقابلية هذه الأفكار، بدورها، لِمُراجعة نفسها وهي تخوض محك هذه الوقائع والمعطيات الجديدة.
أصبح، اليوم، السَّلَفيّ، أو الدَّاعية، هو من يقود النقاش، أو يفرضه، وهو من يَخْتَلِق، ويَفْتَعِل القضايا، أو يُبادِر لافتعالها، لكن من الزاوية التي يرى أنها تخدم فكره، وتخدم عقيدتَه، وأصبح المثقف رهينةً في يَدِ هذا السَّلفيّ، أو الدَّاعية. الأعْمَى يقودُ المُبْصر، ويرسم له خارطة الطَّريق. هذا ما لم نَعِه بعد، وما لا نريد أن نُبادِر للدُّخول فيه، ليس بما تفرضه علينا هذه السلفيات من نقاش سَطْحِيّ، فارغ، لا معنى له، بل بما يُكَمِّل أفكارَنا، وخيالاتنا، وما كُنَّا نطرحه من أسئلة، كان هذا السلفي، الدَّاعية، يعتبرها خارجةً عن الدِّين، وفيها من الإلحاد، ما يُخْرِجُها من الإيمان، أو يدعو لتكفير أصحابها، أو تَعْزِيرِهم!.
في مشروعات محمد أركون، وعبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وأدونيس، وهشام جعيط، وعبد المجيد الشرفي، ومحمد سبيلا، ومحمد المصباحي، وغيرهم ممن يعملون في حقل المعرفة والإبداع، رغم ما بينهم من اختلاف في المنهج، وفي الرؤية، ما يجعل من فَتْح النقاش، من جديد، في قضايا الدِّين والدولة، وفي قضايا الحداثة والتنوير، وأهمية العقل، في تَفْكيرِ الإيمان، أو الدّين نفسه، ضرورةً مُلِحَّةً، وعاجِلةً، حتى لا تبقى يَد السلفي والداعية هي الطُّولى، وكأنَّ الدِّينَ هو ما يصدر عن هذا السلفي الماضوي، وأن الدِّين، جَرَى، أو يجري خارج التاريخ، وخارج المنطق والعقل. تفكير ابن رشد، هو بين هذه الضرورات، لكن بالصورة التي تُخْرِج ابنَ رُشد من عباءة الفقيه، و تضعه في سياق الفيلسوف الذي ساعدَه ضوءُ ‘الآخر’ في تفكير ‘الذات’، ما جَلَب عليه متاعِبَ ما تزال، إلى’اليوم، تُلاحِقُه.
كان طه حسين، وعلي عبد الرازق، و محمد عبده، أيضاً، مثقفين، كلهم خرجوا من عباءة الأزهر، لكنهم، أدركوا أنَّ المعرفة لا تتأسَّس بالتقليد، واستعادة الماضي، وفق نفس الصورة، والإخراج، فوجود هذا ‘الآخر’، أو معرفتَه إلى جانبنا، هو ما يمكنه أن يُساعدنا على معرفة مَنْ نَحْنُ. لم يكتف هؤلاء بالانزواء على ذواتهم، بل إنهم خرجوا بأفكارهم إلى الساحات والميادين العامة، لأنهم مَسُّوا أراضِيَ، كانت ممنوعةً، أو كانتْ حكراً على ‘رجال الدِّين’ يفتون فيها كما يشاؤون، ويتأوَّلُونها بما يخدم مصالحَهم، في علاقتهم بأولي الأمر! فكتاباتُهم أثارت الكثير من الغُبار، وأسالت حبراً كثيراً، لأنها، في جوهرها، مَسَّت أساسات المَعْبَد السلفي الماضوي، الذي كان يعتبر الماضي، هو عَرَبَة الحاضر، وهو ما يمكنه أن يكون الحلَّ، مثلما نقرأ، ونسمع اليوم، أنَّ ‘الأسلام هو الحل’.
كان طه حسين، ومحمد عبده، بشكل خاص، مُواظِبَيْن على الكتابة في الجرائد والمجلاَّت، وأغلب كُتُب طه حسين، كان نشرَها على شكل حلقات في الصحافة اليومية، وكان إقبال الناس عليها، دليلاً على ما بدأت تخلقه من انتباه لأهمية الفكر الجديد، فكرِ الحداثة والتنوير، في إضاءة ما كان اسْتَشْرَى من ظلام في عقل ووجدان الناس. فالصحافة لعبت، دوراً مُهمّاً في تَوْصيل كتابات هؤلاء الكُتَّاب والمفكرين، والمبدعين، وبينهم روايات نجيب وحفوظ، إلى القُرَّاء، وكان النقاش العميق، والحادّ، أحياناً، يخلق حالةً من الوعي العام، بكثير من الأسئلة، والأفكار التي لولا هذه العلاقة، الإعلامية، المباشرة، بين الكاتِب والقاريء، لَما تَمَّ الانتباه إليها، خصوصاً أنَّ الإقبال على الكُتُب، وقراءتها، يحتاج لِجُهْد، ولصبر ووقت، ليس هو هو جُهد وصبر ووقت المقال، أو الفصل الواحد من الكتاب، حين يُنْشَر في حلقات مُتتالية.
أعرف أنَّ ثمَّة بين المُبدعين والفنَّانين، من شُعراء وروائيين ورسَّامين، من يكتفون بالشِّعر والرواية والرسم، دون امتلاك وعي نظري، بطبيعة ما يقترحونه من إبداعات، ومن أفكار، وهذا أحد أسباب هذا الصَّمْت الذي يغرقون فيه، وهو، في تصوّري نقص في معرفتهم وفي خيالهم، لأنَّ المبدع العميق، لا يمكنه إلاَّ أن يكون صاحب نَظَر بعيد، دون وَعْيٍ نَظريٍّ عميق بما يجري حوله من أمور.
كان الشَّاعِر الراحل محمود درويش، دائماً يعتبر نفسَه بعيداً عن هذا الوعي النظري، شعرياً على الأقل، وأنه مشغول بكتابة الشِّعر، لا بغيره، لكنني، وفي مُداخَلة لي، بمدينة الرباط، كنتُ أكَّدْتُ له، في ندوةٍ حول شعره، أنَّ هذا غير صحيح من خلال قراءتي لعدد من حواراته التي فيها يظهر فهمه النظري العميق للشِّعر، وليس كتابتَه فقط. وحين صدر كتابه ‘الغريب يقع على نفسه’، وهو حوار مُطَوَّل أجراه معه الصديق عبده وازن، بدا هذا الوعي واضحاً، وبدا أنَّ لا شاعرَ، عميق وكبير، دون نظرية في الشِّعر، عميقة وكبيرة، وهذا ما ينسحب على وعيه الفكري والسياسي.
لا مُبَرِّرَ لك أيها المثقف، شاعراً، أو روائياً، أو رسَّاماً، أو موسيقياً، أو ممثلاً، أو مخرجاً، أو معمارياً، أن تبقى مُقيماً في صمتك، أو في موتك بالأحرى، فأنتَ واحد ممن يحملون أفكار، وحين يُهاجَم الفكر والإبداع والفن، فهذا يعني أنَّه من واجبنا أن نقول رَأْيَنا، وأن نُنَبِّه لِعراء الإمبراطور، ولهذا الفكر الظلاميّ الذي بات يَحْبِسُ عنَّا الهواء والماء، ويمنع عنَّا الشمس، وكأننا نعيش في براميل، لا في حضارة فيها مُدُن ومصانع، ومدارس وجامعات، وفيها إنسان، لم يَبْق، بالضرورة، مَحْضَ ‘حيوان’، بل إنه انفصل عن الحيوان بالفكر والعقل والخيال، وبالرأي الحُرّ، والاختيارات التي لا يتدخَّل فيها الغَيْب، لا من بعيد، ولا من قريب.
________
*شاعر من المغرب
(القدس العربي)