“العزاء فينا بارد!”


* مها الصفدي

( ثقافات ) 

تشدّني أغنية المرحوم نصري شمس الدّين “بالسّاحة تلاقينا بالسّاحة، عليها جوز عيون شو دبّاحة”؛ هذه الأغنية وغيرُها الكثير غنّى المطربون عبرها الأماكن المعروفة، التي تكاد تكون مشتركة الوجود في غالبية المدن والقرى قديمًا، وبعضُها لا يزال موجودًا حتى يومنا هذا سواء في قُرانا أو مُدننا. 
“العين”، “البير”، “السّوق” و “السّاحة”.
والسّاحة لمن لا يعلم هي المكان الواسع اللذي يتوسط البلد، ويتداول فيه النّاس مصالحهم سواء كانت تجارية أو اجتماعية أو ترفيهيّة.
والسّاحات كثيرة عندنا ها هُنا في مدينة النّاصرة- ساحة العين، ساحة الكراجات، ساحة ديانا وغيرها… إنّ حال ساحاتنا تَمامًا كحال الدّول، الأزمنة، الأيّام وكحال النّاس أحيانًا.. 
لقد صدق من قال : “لكلّ دولة زمانٌ ورجال” ! في الأمس البعيد كانت “ساحة العين” مليئة بالملّايات والسُقاة وبعض الوافدين للحجّ (والملّايات، هُنّ صبايا النّاصرة اللواتي كُنّ يردنَ العين بقصد نقل الماء إلى بيوتهنّ، يتمايلنَ وجرارهُنّ فوق الرؤوس كالتيجان. أمّا السُقاة فهم غُرّة شباب النّاصرة اللذين كانوا يفدون إلى العين، يجرّون جمالهم أو خيلهم أو حتى حميرهم بغية اسقاءها. وأمّا البقية الباقية من زوّار العين فهم أهل الإيمان اللذين يحلّون ضيوفًا على الناصرة المقدّسة يتبرّكون من كنائسها، ويعرّجون إلى عينها، حيث مربى البتول). 
تدور عجلة الزّمن وتخبو جذوة النّار اللّتي أضاءت سماء العين، لكن بالمقابل وبعد عدّة سنوات، تلتهب شعلة نور فوق سماء ساحة أُخرى من ساحات النّاصرة لتصبحَ مركزًا وملتقىً للأحبة من الأهل والزُّوار.(لمعلوماتكم ليست الملتقيات كلّها ملتقيات ايجابية، بل أحيانًا هي سلبيّة تحمل في طيّاتها ما لا يشبه أرض ساحتها) تلك السّاحة لم تكن سوى “ساحة ديانا” التي سُمّيت بهذا الاسم نسبةً إلى سينما “ديانا” التي امتلكها الأخوان هاني ووائل الفاهوم. 
لم تكُن “سينما ديانا” هذه مُجرّد دار لعرض الأفلام، بل وكانت ملتقىً فنيًّا واجتماعيًّا وترفيهيًّا واقتصاديًّا مهمًّا، أعطى للنّاصرة طابعًا ونكهةً خاصين. كان يفدُ إلى هذه السينما الزوّار من أهل المدينة ومن القرى المجاورة لها؛ وكان من البديهي كذلك أن تقوم في هذه السّاحة مصالح أخرى لتلبية احتياجات الزائرين. الحاجة الأولى كانت “الأكل” فقام البعض من أهل المدينة بافتتاح المطاعم الكبيرة منها والصغيرة، سُمي بعضُها باسم السّاحة (أو لنقل حملوا اسم السينما)؛ من أهم هذه المطاعم مطعم “ديانا” لصاحبه خالد الذكر المرحوم “محمود دخل الله الصفدي”. 
في هذه الفترة شهدت النّاصرة أيام عزٍ لا يمكن أن تُمحى من الذّاكرة، تَمامًا كما لن تمحَ بعض الصّور المؤلمة نوعًا ما منها. من الصّور المؤلمة التي رسخت في ذاكرتي حينئذ كطفلة صغيرة، هي انتشار المخدّرات في المدينة، اللذي بدأ خجولًا في سنوات السبعينات وازداد مياعةً ووقاحةً مع الوقت؛ وسواء كان هذا الانتشار خجولًا أم وقحًا، فإنّه كان يتمّ تحت أنظار الشّرطة وغيرها من المؤسّسات التي كان من واجبها حينها القضاء على مثل هذه الظواهر ووضع الحد لها. لكن من يومها وحتى يومنا هذا لم نرى من الشرطة والجهات المسؤولة سوى غض الطرف، بل وأحيانًا “الطبطبة” على أكتاف المروجين للخدر ومباركتهم؛ لم نرى أو نسمع عن أي منع أو ردع إلاّ مرّة واحدة ووحيدة، لا قبلها ولا بعدها.. وإليكم القصّة:
قبل ما يزيد عن ثلاثين سنةٍ، في أواخر السبعينات من القرن الماضي، تحديدًا في ساحة ديانا، تلك السّاحة اللّتي عجّت بالحياة حينها وبالجمال والفنّ؛ وامتلأت على النقيض بموزّعي المخدّرات (بعضهم على استحياء، والبعض الآخر كما يُقال: “عيني عينك”) والشُّرطة كعادتها ترى وتسمع وتُبارك؛ حدَث ما لم يَكُن متوقّعًا!
لكن ماذا حدث؟! 
حدَث ما لم يكُن مُتوقّعًا من قِبل من أرضاهم انتشارُ المخدّرات بين أهلنا شبابًا ورِجالًا.. وبما أنّ “العزاء فينا بارد”، فإنّ العزاء بغيرنا “حارّ” وجدًّا. أحد “كامبات” الجيش (معسكرات الجيش) والذي كان قريبًا نوعًا ما من منطقة ديانا، أتاح وصول الجنود إلى السّاحة بسهولةٍ، حيثُ كانوا يقضون أوقات فراغهم أو يشترون الطّعام وبعض الحاجيّات الأخرى. وحال الجنود الشباب حال شبابنّا الذي يتوق لتجربة كل ما هو جديد و”صرعة” حتى وإن كانت صرعةً سلبيّةً، على مبدأ “كل ما هو ممنوع مرغوب”. بدأ بعض الجنود بشراء الأنواع المتوفرة من المخدّرات (أظُنُّ “الحشيشة”) واستعمالها؛ استفاقت الشّرطةُ فجأةً من سُباتها، وأخذت بالتّحذير (تحذير كلٍّ من الجنود الشباب، ومُروّجي المخدّرات) مرّةً وأُخرى وأخرى.. والجماعة (مروّجو المخدّرات) “أذن من طين وأخرى من عجين”.. إلى أن نفذ صبر الشُّرطة والقيادات العُليا، وهبّت هبّةً واحدة مُقرّرةً الضربَ بيدٍ من حديد لكلّ من يعصاها، فقامت بحملة تطهير شرسة ضدّ مروجي المخدّرات، سُمّيت وقتئذ بـــــ  (ليلوت)، طُهّرت خلالها ساحة ديانا من كلّ مروّجي المخدّرات الذين اعتُقلوا وزُجّوا في السّجون حتّى آخر مرّوج. ومن يومها حتّى يومنا هذا فإنّ أنظفَ ساحة في النّاصرة هي ساحة ديانا!!!!!
ولا يزال العزاء فينا باردًا…
________
* كاتبة من فلسطين 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *