مدينة بوجوه ملونة


مريم حيدري *

  
وهران، هل هي مدينة تسحر من يدخلها أم تسكنه؟.. هذا ما تبادر إلى ذهني وأنا أصل ليلا من الجزائر العاصمة إلى وهران عبر الطريق البري الذي استغرق أربع ساعات، ورغم أن الظلام كان يمنعني في كثير الأحيان من رؤية معالم الطريق والمدينة، إلا أن رائحة المدينة كانت حادة لا تسمح لزائرها بعدم الاكتراث والخلود إلى النوم حتى إن وصل في ساعة متأخرة من الليل.
صباحا نهبط إلى المدينة لأجد شوارع وبنايات طالما أحببتها في الجزائر، ولكنها هنا أقل صخبا بكثير مقارنة بالعاصمة، الشمس التي تبعتني من طهران، ها هي في وهران في أجمل حالها، ورغم أنهم كانوا يشكون من حرارة الطقس ويستغربون من شمس كهذه في نهايات سبتمبر، إلا أنني وكالعادة أجد نفسي سعيدة بالشمس، خصوصا أنها هنا مجاورة للبحر الذي لا نهاية له، ومستلقية على الأرصفة والشبابيك الزرقاء.

هل من المقرر أن أزور كل مرة مدينة فاتنة في الجزائر؟ من العاصمة، إلى تلمسان، وقسنطينة، وصولا إلى وهران. أحاول أن أمشي قدر ما استطعت متذكرة وصايا صديقي الجزائري الذي أكد لي قبل سفري على أن لا أفوت على نفسي تجربة أي شيء جميل في المدينة وأن أزورها حارة حارة وركنا ركنا.

لوهران أكثر من وجه، أولا أنها (هي) مدينة الراي، الموسيقى الجزائرية الرائعة التي أعتبرها النغمة الروحية والحسية الموحدة في الجزائر، المليئة بالصخب والفرح والحركة حتى في ما يغنــى بها عن أحزان الحب، والجميل أني أرى الشباب والشيوخ في الجزائر يحبون الراي ويسمعونها، بشعور واحد. كأنها راية حقيقية تجمعهم تحت ظلها. وهي في الواقع المدينة التي نشأ فيها كثير من مغني الراي، لا سيما الشاب حسني، مغني الراي الذي اغتيل شابا عام 1994 وفي فتـرة الإرهاب السوداء في الجزائر مـن قبـل الإسلامييـن المتطرفيـن.

ثم هي المدينة التي يجد فيها الجزائريون وحتى الأجانب فسحة كبرى من الحرية والمرح. وأنت تمشي في المدينة تشعر بهذه الحرية وتلمسها، تشعـر أن روحـك أخف، وحتى وأنا أنظر إلى المدينة من زجاج غرفتي في الفندق، أسمع نداء المدينة وبناياتها البيضاء، وشوارعها الهادئة وزرقة البحر لأهبط ولا أنسى وصايا الصديق.

الوقت يمر بسرعة وعلي أن أروي عطشي من المدينة جرعة بعد أخرى.. موسيقيا، وشمسا، وبحرا، وأكلا، وشربا، ورقصا، وهذا كله إلى جانب المهمة الأساسية التي أنا من أجلها في المدينة وهي مشاهدة القدر الأكبر من الأفلام التي تعرض خلال الدورة السابعة لمهرجان وهران للفيلم العربي والكتابة عنها.

طوال ثمانية أيام أزيح من طريقي أي أمر ينوي أن ينغص عيشي في وهران، وبحواسي الخمس ألمسها، وأشمها، وأسمعها، وأراها وأتذوق ما فيها من نكهات.

أخرج منها في الصباح الباكر، متجهة ثانية نحو العاصمة بوعود بيني وبينها للقاء سوف يشحنه مزيد من الحب وشغف الحياة الطافح فيها، والذي يحتاج إلى الكشف، سعيدة بأني اكتشفت هذا الشغف خلاف إيراني آخر التقيت به هناك كان يشكو الوحدة والفراغ في المدينة.

أعود إلى طهران، بشوق متواصل لسماع الراي، ومسكونة بسحر المدينة، أسمعه لساعات رغم حنيني لمطربيّ الإيرانيين المفضلين.. أجد البيت الصغير كما هو، ونباتاتي بخير، وسعادتك تكتمل حين تكون لك جارة تعتني بنباتاتك طيلة سفرك!
* شاعرة ومترجمة من إيران
( العرب )

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *