علي النجار و تمثّل فكرة المعاصرة


*سعد القصاب

كان لانتقال الفنان علي النجار إلى أحد بلدان الاستقبال (السويد- مالمو) العام 1999 الأثر في تحقيق قدر من الإضافة والتغيير في تجربته وخبرته كفنان، وكذلك، تجديد وسائله الفنية كي تصبح أكثر حرية وتنوعاً، وبأثر الإطلاع على معطيات ثقافة، جديدة ومعاصرة في بلد الاستقبال وقدرة استيعابها وفق حدود وعيه الذاتي، والتي بات يميزها كرؤية مغايرة خاضعة لحراك أكثر حيوية، ما شكل له مكسباً ثقافياً وفنياً جديداً. 

أولى تلك التأثيرات، وجوده في بيئة جديدة، افترضت اختلافاً بصرياً ولونياً عما كان قد عايشه في بلده الأم ( العراق). في حين كان التأثير الآخر قد تحقق جراء إطلاعه وتلمسه عن قرب لاتساع وتنوع مساحة المشاهدة للتجارب التشكيلية الجديدة بالنسبة اليه، وبشكل مغاير عما كان في بلده الأصلي. جاء ذلك من خلال زياراته لمتاحف الفن وقاعات العرض الخاصة، والإطلاع على الورش الفنية المقامة، ومتابعته للتجارب الفنية الحداثية وما بعد الحداثية، ومشاريع فنية ذات طابع عالمي. كما أثار انتباهه امتلاك الفنان الغربي للمعرفة التقنية، التي ساعدته كثيراً على توسيع دائرة اكتشافاته الجمالية الخاصة. وامتلاكه لصفات البحث الأسلوبي وفق رؤية ثقافية وفكرية معاصرة، وعبر الانسياق وراء المعارف الجديدة بطريقة مبتكرة. 

أثرت تلك المشاهدات في إحداث تغيير في رؤيته بما يجعله على مقربة من محيطه الثقافي والإنساني الجديد. والذي تمثل بإدراكه أن المشهدية التي ينطوي عليه العمل الفني المعاصر هي جراء تضافر الحس التقني مع المغزى الثقافي والجمالي معاً. ما جعله يعاين حدود التأثير والتأثير الايجابي بمعطياته التجريبية ومكتسباته التقنية المستجدة. والتي افترضها كمقاربات فنية معاصرة دفعته للتفكير وإعادة النظر في مخزونه البصري وخبرته السابقة، لما قبل هجرته، وإمكانية التعاطي مع معارف واستجابات ثقافية وإنسانية جديدة. 
الأمر الذي جعله يتعلل بصفة البحث الأسلوبي الفني والتفكير بمستوياته المتقدمة، وتأمل مستجدات الفعل التشكيلي المعاصر الذي نظر إليه بوصفه « لغة نافذة عابرة لا تخضع لأي حاجز، من هنا تنتفي غربتها وتبعاتها على منتجها». وانعكاس مثل هذا الوعي في اختياره لموضوعات مغايرة مهدت لتجربة مختلفة. 
تحولات الجسد
منذ ثمانينيات القرن المنصرم ولحين وجوده في بلد الاستقبال الجديد، تواصلت رؤية الفنان علي النجار في المضي بابتكار عوالم متخيلة، وحضور للرؤية الخليقية في لوحاته. وخلالها كان الجسد الإنساني، وهو أشد مفرداته التشكيلية تمثيلاً ووقعاً دلالياً، يحيل إلى موضوع الأسطورة كما ينطوي على دوافع لاواعية، داخلية ومتخيلة، بظهوره على نحو يكاد أن يكون هجيناً ومختلفاً.
لقد كانت صورة الجسد لديه متحققة من منظور وعي حامل لثقافة وإشكالية فنية هي نتاج محصلة تاريخية ومجتمعية في بلده الأم، تظهر تارة بمواراة وأخرى بوضوح. مجتزئاً أو كاملاً وهو ذو خصائص صورية وتأليفية معينة بكونه يجسد ملامح البعد الإنساني والوجودي. جسد في حالة حضور أقل رسوخاً على الأرض، وأكثر خفة، خاضع لحراك مرئي، تحيطه غالباً وجوه محورة، وكائنات ذات طابع صوري غرائبي، جاعلة منه إيقونة راسخة تعبَر عن وحدانية الكائن الخليقي في هذا العالم. 

ما بعد العام(2003)، سنجد أن هذا الجسد قد تحول من معطى بصري، بالغ التأثير في صياغته التشكيلية، إلى رؤية أكثر تجريدية، حاملة أثرها التجريبي، على صعيد الفكرة والتقنية، ومعبرة عن موقف أكثر ذاتية. وكأن الجسد ذاته قد أخضع للمراقبة والملاحظة والشعور به بوصفة تجربة ذاتية تتمحور فكرتي حول الألم والموت
الجسد بوصفه ذاتاً
عانى الفنان النجار منذ العام 1993، من مرض عضال. وكان لطبيعة الاهتمام الصحي من قبل المؤسسة الصحية في بلد الاستقبال وتجاوزه تبعات هذا المرض، السبب في خلق دافع للنظر لهذه التجربة الفردية، بوصفها تاريخاً شخصياً، ظل ملازماً للفنان بما يقارب العقد من الزمن، ما دعاه للتعاطي مع فكرة الجسد كموضوع ذاتي يمكن تمثله في تجربة فنية.

جسد قد استحال إلى كيان معرض للأذى، لكن تمت حمايته من الألم والوهن والموت، وتجاوز عدّه كياناً تعطلت فيه أعضاؤه، ليكون بعدها بمنزلة تجربة حياة سابقة يروى عنها من خلال العمل الفني، الذي سيكون تصويراً لذاكرة جسد تمت معايشته بواقعة الألم. وبما يجعل الفنان علي النجار يتبنى وجعه الذاتي والجسدي بوصفه موضوعاً لتجربة فنية. تخضع لعمليات تكثيف وانفعال نفسي، ومحاولة تفسير قصدي جمالي لها.

وكانت لدوافع الاغتراب أثرها في اقتراح رؤية كهذه، اذ على الفنان التشكيلي المغترب اكتشاف ذاته من جديد في وسط فيض من تجارب كثيرة ومعاصرة. خاصة بعدما انتبه الفنان علي النجار بأن مبدأ الإضافة المتحققة لأية تجربة فنية معاصرة لابد أن تبدأ من الاشتغال على الافكار والمعارف الحديثة، ومن هنا سينظر إلى مفهوم الجسد بوصفه موضوعاً يبحث عن إشكالية فلسفية لا يمكن فصلها عن الفن ولا عن رؤيته تجاه العالم. 

في عمل تركيبي بعنوان (لغة الجسد)، والمؤلف من سرير جاهز، وإعمال منفذة بأحبار ملونة على ورق وألوان زيتية على كنفاس مجموعها 75 عملاً، أنجزت العام 2004، كان قد شارك به الفنان في أحد المعارض الجماعية في مالمو العام 2005، وأعاد عرضه كذلك في معرض جماعي في ستوكهولم العام 2006، معتمداً فيه على مجموعة من التخطيطات الأولية كان قد نفذها في بغداد العام 1993 أثناء فترة مرضه.

توزعت الأعمال الورقية والزيتية على أربع مجموعات حملت كل منها عنواناً خاصاً بها: ( تداعيات)، و (الأحلام)، و( الآثار) ، وكان عنوان المجموعة الرابعة هو (الأعمال التجميعية) . 
ضم العمل التركيبي « لغة الجسد» على سرير جاهز تبدو عليه آثار عملية جراحية وظل لجسد. يتوسط قاعة العرض، فيما علقت على جدران المكان المخصص للعرض مجموعة لوحات نفذت من ورق كنفاس وأحبار ملونة مع عدد من لوحات زيتية وبأحجام مختلفة. 
اتخذت هذه الأعمال تجربة الفنان الجسدية إثناء فترة مرضه، والتي وصفها بكونها خيالات « رافقتني في لحظة حرجة، نجدها مبعثرة خلال فضاءات هذه الأعمال، ولم استطع الإفلات من وقع الحالة التعبيرية للمرض والذي يشكل اللون الأحمر إحدى توهجاته». 

في أعماله هذه، نجد ثمة أشكال هلامية ذات طبيعة متغيرة، هي بما يشبه ذكرى لتهويمات صورية أثارتها حالات اليقظة المتدرجة بعد انتهاء فعل المخدر عقب السلة لعمليات الجراحية التي خاضها إثناء فترة علاجه من المرض.
في هذا المشروع لم يتمثل علي النجار فكرة المرض بوصفها إحدى حالات الإخفاق الجسدي وعجزه عن تأدية وظائفه، بقدر ما هي حصيلة آثار نفسية ووجدانية توافقت مع مصدر إبداعي، تحولت خلالها هذه العلاقة من مشاعر مترسبة بحدود الوعي بالألم الى فعل مشاركة فنية يتم إظهارها في لحظة تأمل وفعل تجريبي جمالي. 

في مشروعه التركيبي « لغة الجسد»، يستبعد الفنان علي النجار، عناصر شكلية وصورية من تجربته السابقة، والمتمثلة باهتمامه بالتشخيص الشكلي الغرائبي واعتماده على ليونة الخط كمحدد لهذه الإشكال. وإنما ينطلق من محاولة تأسيس لإشكال وتكوينات جديدة، باعثها الرغبة في التجديد وافتراض مقاربة تعبيرية تتعاطى فكرة مستحدثة. محاولاً الوصول بها الى عوالم فنية مختلفة، بدافعية تكريس مهارات تقنية أخرى متمثلة بالأحبار والورق، وجعلها تشكل صورة تماثل فعل الشعور بالأذى الذي سكن جسده.

يتحول موضوع الجسد، من شهادة عن حدث بيولوجي، وأداة معرفة ذاتية تستبطن ذاكرة مؤلمة، الى توصيفها كرؤية تتجسد على المادة الفنية بطرق عدة، ممكنة، تغني مشهدية عمله الفني، الذي يمثل تصوره زمناً استرجاعياً. فالجسد بات هنا انشغالاً فنياً يحتفي برؤيته ووعيه الخاصين به، وعبر النظر أو تخيل الدخول الى عمقه وجوانيته، بما هو قابل على اختراقه وتفتيته وإعادة تمثيل أجزائه. باعتبار هذا الخيار محفزاً لتجربة بصرية، فالجسد هنا لم يعد بوصفه عياناً مادياً مشخصاً، بل لحظة تخيل وعلاقة صورية تدل على حضورها الفني.

حاول الفنان علي النجار توصيف الحالة التي كان خلالها الجسد يخضع لأحاسيس متباينة من الألم، والخدر، والغيبوبة، والنقاهة، متمثلاً تصوراته عنها والتي سكنت ذاكرته. وهي تصورات أخضعها إثناء فعل الرسم لصياغات تجريبية، وتمثيل تحولاتها. حيث نرى السرير الجاهز وهو بمثابة الثيمة الأساسية التي تبدأ منها فكرة العمل، فيما الأعمال الأخرى المنفذة بمواد الزيت والأحبار الملونة تتخذ صبغة تقترب من توصيف المراحل التي تدرجت خلالها حالات الجسد، باعتبارها شهادة صورية عنه.

ثمة تمهل في الصياغة التأليفية للوحات المنفذة بمادة الألوان الزيتية والأكريليك على الكانفاس، حيث نرى الأشكال أكثر اقتراباً للدلالة التشخيصية، فيما تتخذ الأعمال المنفذة بمادة الأحبار والورق طبيعة تأليفية مغايرة. فهي خاضعة بمعالجتها الى طبيعة المادة وسيولتها، وشفافيتها، وتمثيلها للبعد التعبيري بصياغة تقترب الى التجريد، لكنها تبقي على إشارات دالة عن تماثلها مع الموضوع من خلال الإبقاء على ما يشبه الإحالة الى رفع ضمادات طبية مرفوعة حديثاً عن الجرح، أعمال تواصلت مع بعضها البعض في طريقة أداء ذات طبيعة توافقية، متعاقبة، اختلفت فيها وتعددت تفصيلات المشاهدة. 
________
*( الصباح الجديد)

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *