‘طفلة بيضاء وطيور بلا قوائم’:الوجه الأنثوي للقارة اللاتينية



*غدير أبو سنينة

 إكمالاً للمقولة الشائعة بأن التاريخ يُكتب بأيدي المنتصرين، فإنه على الأغلب يكتب بأيدي الرجال. لذلك فدور المرأة يبدو مهمّشاً في كثير من الأوقات، مع أنَّها تمارس دور البطولة في الكواليس.

المرأة الأسبانية والهندية
في رواية الكاتبة النيكاراغوية روساريو أغيلار، “طفلة بيضاء وطيور بلا قوائم”. تحاول الكاتبة أن تتطرق إلى دور المرأة الأسبانية والهندية على حد سواء في إعمار “اليابسة”، بل ودورها الأخطر في إيجاد عرق جديد والدفاع عنه.
تتحدث الرواية عن ست نساء عايشن فترة الغزو الأسباني لأميركا اللاتينية، وكلهن مذكورات في التاريخ بطريقة مختصرة، فتمنحهنّ أولويًّة الظهور، وتفسح لهن المجال في روايتها بأن تنطق كل منهن بما حدث معها تاركة لخيالها ولرؤيتها أن تتحدث أيضا جنبا إلى جنب إليهن. أما أزواجهن فستضعهم الكاتبة -وعلى العكس تماما من المؤرخين- في الهامش.
قد تفسر لنا الرواية شيئا من التاريخ المبهم عن سهولة استعمار قارة كاملة في مدة قياسية، والأدهى من ذلك محو لغتها ودينها.
بكثير من الخيال وبعدة مونولوجات، وبنسيج روائي رائع، نتعرف إلى ست نساء عايشن فترة الغزو الأسباني التي كانت مقدمة ظهور عرق جديد.
تبدأ الرواية بالسيدة إيزابيل وهي زوجة المستعمر الأسباني، أستبدل كلمة فاتح عمداً بالمستعمر، بيذراريس دافيلا، التي لم تكن لتعجبها أفعال زوجها الوحشية ضد ما أسماهم الأسبان بـ “المخلوقات”، إذ كانوا يعتقدون أن السكان الأصليين ليسوا بشراً حتى يعتنقوا المسيحية، ومع هذا فلم يفلح الدين الجديد الذي اعتنقوه في حقن دمائهم. تتغاضى هذه السيدة عن الأفعال التي تعلم أنها تناقض الدين -الذي كان المطية التي اعتلاها الأسبان لاستعمار قارة كاملة-، في سبيل ضمان مستقبل آمن ووافر لأبنائها الذين تركتهم في أسبانيا، محاولة أن تجد لبناتها أزواجا من “الفاتحين”، الذين أدركت أن سيكون لهم شأن عظيم في المملكة، لكن توقعاتها تخيب حينما يؤدي التنافس البشع على سلطة العالم الجديد إلى أن يقتل زوجُها، خطيبَ ابنتها ماريا، المستعمر الأسباني باسكو دي نونيس الذي يصفه المؤرخون بـ”الفاتح الطموح، أقل الفاتحين وحشية”.
ومن بين الأسبانيات اللواتي ذُكرن في الرواية، السيدة ماريا ابنة إيزابيل التي تتحول من فتاة حزينة محبطة وضحية لجريمة والدها بقتل خطيبها، وما رافقه من هدم لأحلامها بالزواج من فاتح عظيم والخروج من الدير الذي تركته والدتها به، إلى فتاة طموحة جشعة، تتزوج من مستعمر آخر، محاولة السيطرة مع زوجها وأبنائها على أكبر عدد ممكن من البلاد المفتوحة، متستِّرة على جريمة أبنائها الذين قتلوا القس فالديفييسو الذي وقف في مواجهة فسادهم ووحشيتهم.
أما السيدة بياتريس، التي لقّبت نفسها بـ”قليلة الحظ”، وهي زوجة المستعمر بيذرو دي ألبارذو، فقد كانت رمز المرأة المتدينة التي أقامت الحداد بعد موت زوجها، وأمرت بدهن قصرها بجدرانه وأبوابه بالأسود، لكننا نراها شخصيّة متناقضة حينما تجدّف بالذات الإلهية أحيانا. وهي تعتبر من النساء اللواتي حكمن “اليابسة”، لكنها ولسوء حظها لم تستمر في الحكم سوى ليوم واحد فقط، إذ غرقت في الطوفان الذي أغرق المدينة مع خادماتها وابنتها التي لفتها بملاءة رافضة الهروب من قدرها.
إبادة حضارة
تطرح الكاتبة رؤية مختلفة حول السيدة لويزا أو تيكويلويتسين، ابنة زعيم سيكوتنكاتل رئيس قبائل تلاكسكالا، التي أهداها والدها مع فتيات أخريات إلى المستعمر الأسباني هرنان كورتيس الذي بدوره أهداها لبيذرو دي ألباراذو الملقّب بـ”توناتيوه”، أو إله الشمس بلغة الناهواتل القديمة. فألباراذو كان أبيض البشرة أحمر الشعر، فاعتقد المايا أنه ابن آلهة الشمس الذي كان قد مر ببلادهم في الماضي وكان من المتوقع أن يمرّ من جديد -حسب تقويم المايا- في ذات عام الغزو، لذلك لم يبدوا مقاومة في مواجهته إلا بعد أن تبين أن هؤلاء الغرباء ليسوا آلهة ولا أبناء آلهة. لقد كان الهدف من بقاء تيكويلويتسين بينهم هو أن تزوِّد قومها بأخبار الأسبان أولا بأول، كي يتمكنوا من هزيمتهم بعد هزيمة الأزتيك.
هوية بديلة
إذ تحالف التلاكسكاليون مع الغزاة الجدد في سبيل التخلص من موكتيسوما حاكم إمبراطورية الأزتيك في حاضرتها “تننوتشتيتلان”، أو مدينة مكسيكو حاليّاً. كان موكتيسوما حاكما قويّاً ومحارباً فذا، لكنه في الوقت ذاته كان عدوا للتلاكسكاليين وكان يشن هجماته عليهم بين الحين والآخر، فما كان منهم إلا أن فكروا بهذا الحلف على أن يتخلصوا من الغزاة البيض لاحقا. لكن ما حدث هو أن الغزاة تخلصوا من الجميع وأبادوا تلك الحضارة عن بكرة أبيها في مدة قياسية أدهشت المؤرخين.
كان على تيكويلويتسين أن تغيّر من هويتها كي تكون مقبولة في ذلك المجتمع الذي سيصر على رفضها رغم محاولاتها الاندماج فيه. كان عليها أن تتعمّد كي تحلّ فيها الروح، وأن تغير اسمها الذي أصبحت تنادى به بينهم وهو السيدة لويزا.
وعلى العكس تماما من الخطة المرسومة من قبل التلاكسكاليين الذين أرادوا استغلال وجودها بين الغزاة، فقد أحسن الأسبان استغلال قدراتها أيما استغلال حينما وقعت تيكويلوستين في حب دي ألباراذو، فما كان منها سوى أن حذّرته من كمينٍ نصبه له قومها، لتحصد لعنتهم إلى الأبد.
تيكويلويتسين ترمز إلى المرأة التي تقع في حب الأجنبي، فتساعده دونما نيّة سيّئة في تحقيق مزيد من الانتصار على شعبها، لذلك فليس غريباً أن تُعامَل معاملة الخائن، إلا أننا في الرواية نتعاطف معها، حينما يهجرها قومها ويحتقرها الأوروبيون، وحتى أبناءها، يُؤخذون منها كي ينشأوا على التقاليد الأوروبية التي تحتقر الهنود، وتصاب هي بالجنون بعد أن أحضر بيذرو دي ألباراذو زوجته الأسبانية السيدة بياتريس دي لا كويفا، ثم تموت وهي في الثلاثينات من العمر. فالكاتبة إذاً تحاول إزاحة الغباش عن زوايا أخرى في نفسية تلك النسوة فيما يشبه التبرير لأفعالهن، وإظهار الدور الإيجابي لهن في إعمار العالم الجديد.
تستكمل الكاتبة روايتها وتصل إلى الحبكة في الفصل الذي يتحدث عن السيدة ليونور وهي تمثل رمز الاندماج بين العرقين الأسباني والهندي، بين حضارتين، بين ثقافتين وبين عالمين. تعتبر السيدة ليونور المولود الأول في غواتيمالا الذي نتج عن هذا الخليط، أو ما يسمى بالعرق الجديد (المستيسو)، وفي الرواية التي اختلطت فيها الحقائق بالخيال تعامل السيدة ليونور والدتها ذات المعاملة التي عاملها الأوروبيون للهنود فيما يعاملها الأسبان باستعلاء نتيجة الدم الهندي الذي يجري في عروقها، ومع هذا تظل رفيقةً لوالدها الذي يظهر أنه يفضلها على بقيّة أبنائه، دون أن تبيّن الكاتبة سبب هذه المحبة من هذا المستعمر المعروف بوحشيته، أو إذا ما كان اصطحابه لها عن حب أبوي أم تكتيك عسكري.
________
*( العرب)

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *