*خلود الفلاح
( ثقافات )
استطلاع :
يقول الروائي الفلسطيني أنور حامد، تستطيع الكتابة أن تقول، وهذا أثبته رد فعل قرائي ونقادي المجريين الذين عبروا عن ذهولهم من العالم الذي طالعهم بين صفحات رواياتي التي قرءوها بلغتهم. في هذا الاستطلاع تحدث الكُتاب عن الكتابة كقيمة إبداعية قادرة عن التعبير والوقوف في وجه القبح.
إمكانية مساهمة الابداع في تحديد الحياة
تعد الكتابة الإبداعية من وجهة نظر الناقدة الأردنية رزان إبراهيم حادثة ثقافية, والروائي أو المبدع عموماً قادر على توصيل رسالة فكرية تأثيرية مرتبطة بسياق اجتماعي وثقافي وتاريخي معين. وخطابه بالضرورة نتاج تفاعل مرجعياته الفكرية مع حركة الحياة وأسئلتها المختلفة. هناك إذن علاقة تفاعلية تربط المؤلف بجمهوره. مبدئياً وبناء على ما تقدم أقول: نعم قد يكون المبدع صوتاً مناهضاً للعنف والظلم. لكن هذا يقتضي شروطاً وإحداثيات خاصة, أجملها في أكثر من سؤال من مثل: عمن ينوب المبدع ومن يمثل؟ وما الذي يقوله؟ وكيف يقوله؟
وتضيف إبراهيم في خطاب المبدع لجمهوره, لا بد من التنبيه على أهمية أن ينوب المبدع عن مجتمعه, فيضع على عاتقه مهمة تمثيل الناس الذين يعيش بينهم, فيحفز كل ما من شأنه تحريك مبادئ إنسانية شمولية, بعيدة عن كل عنصرية أو فئوية متعصبة تتنفس العنف وتقتات عليه. ويكون في ذات الوقت نصيراً لمبادئ العدل والحق, مناهضاً للظلم, فاضحاً لبؤر الفساد, يحركه في ذلك إيمان مطلق بالذي يكتبه, ورغبة ملحة في الانتماء لحق الإنسانية والبشر عموماً. مما يستدعي كسراً لصور نمطية تضع البشر في قوالب تحول بينهم وبين التواصل الإنساني. والمطلوب منه أن يكون حاضراً في كل الأوقات, ليغدو سنداً يستمد الجمهور منه قوتهم في وقت تتخلى فيه عنهم دوائر السلطة.
وتعتبر إبراهيم الحديث عن الإبداع يقتضي بالضرورة تأكيداً على أسلوب فني جمالي بليغ يقدم الشهادة تلو الأخرى عن فظائع وانتهاكات ترتكب بحق الإنسانية, بما يكون له تداعياته المستثيرة للعاطفة, وهو ما يبلغه كل فنان مبدع قادر على تحميل خطابه أو فنه عموماً شحنات شاعرية من شأنها تفعيل المشاعر الجماهيرية, فيكون أشبه بمناضل يشكل ضمير البشرية, يُعمل أدواته وينشطها لحشد الرأي العام باتجاه ما ينفع البشرية. ولدينا على أرض الواقع من الروايات الفذة ومن الأعمال الفنية الجميلة ما يجسد حساسية جديدة بمكانة المظلومين في العالم, وما يمثل معاناتهم ويشهد عليها, ويدعم ذاكرة شمولية, تقول لنا إن الظلم ظلم بغض النظر عن المكان والزمان.
وإذ ينجح المبدع في خلق عالم فني مبتكر, فإنه يحمل في طياته تحفيزاً على العصيان والتمرد على كل أشكال التخلف, علماً أننا لا نستطيع أن نغيب سؤالاً حول إمكانية أن يساهم العمل الأدبي في تحديد الحياة, وهنا تظهر حيرة المتأمل, والسؤال يبقى قائماً إن كانت حتى نهايات تراجيدية تنتهي بها بعض الأعمال الأدبية تحمل جرعة من التحفيز الإيجابي, أم أنها تنبئ عن سيادة العتمة في عالم مترد يقتل أخيار المجتمع ويمعن في تعذيبهم رغم ما قدموا من تضحيات؟
وتبقى الكتابة في العالم العربي عن عالم يدمر على أكثر من مستوى حسب إبراهيم تتطلب قدرات كبيرة تحثنا على إعادة النظر في ذواتنا مرات ومرات, خصوصاً إذا نظرنا إلى فسحة التأمل التي يمكن لرواية –على سبيل المثال- أن تمنحها لنا باعتبارها مرجعاً تأملياً واسعاً بإمكانه أن يلعب دوراً كبيراً في صراعاتنا الثقافية والسياسية, وهو ما يتيحه لنا شكلها الفني القادر على فتح باب المعرفة النقدية, مع ضرورة التأكيد على أن إخلالاً بوسائط فنية يستخدمها المبدع لا يحبط القيمة الفنية لإبداعه وحسب, وإنما يحبط الرسالة والغاية؛ فالقيمة الفكرية تصبح هباء منثوراً إن لم يحسن المبدع استخدام خصائصه الفنية بصورة ذكية تخاطب حساسية الجمهور وذائقته, وتطلق وعيه النقدي في سياق يجعله جزءاً من فعل نضالي ابتدأه المبدع ذاته.
حصار الإبداع في قيمة نضالية
ترى الكاتبة التونسية فاطمة بن محمود أن البحث في العلاقة الممكنة بين الكتابة الإبداعية وبين مختلف اشكال العنف والظلم يبدو كأننا نريد ان نتحدث عن وظيفة للإبداع فنقول انه يواجه مختلف أشكال العنف المنتشرة في العالم وبالتالي هو في حالة نضالية من اجل ان يعمّ السلام العالم. وتضيف بن محمود: أعتقد اننا بهذا الشكل نقلّل من قيمة الإبداع لأننا نحصره في وظيفة نضالية محددة وبالتالي نختزل رسالته في تحقيق نجاح ما وهنا يتحول مفهوم الابداع من رؤية جمالية قيمية إلى موقف ايديولوجي وخيار سياسي. في حين اني اعتقد ان الإبداع في العموم يهدف إلى الانتصار للجمال والبحث عنه في الطبيعة والإنسان حتى يصبح للوجود معنى استتيقي والانتصار للقيم الانسانية المطلقة. بهذا المعنى يمكن له مواجهة العنف المنتشر في العالم. أي ان الإبداع يواجه العنف مباشرة لأنه سيسقط في التقريرية والمباشرتية وتلك هي مهمة السياسي أو رجل الدين وإنما يواجه العنف عندما ينتصر للجمال داخل الانسان وخارجه وهذا ما يجعل الإبداع يهدف إلى القيمة لا النجاعة وهذا من أسباب ضروريته بالنسبة للإنسان واستمراريته في الحياة.
العنف الناعم في مواجهة النقد
الشاعر الليبي سالم العوكلي يعتبر الفن عموما نشاط جمالي ومفهوم الجمال أنه رسالة سلام في الأساس، هذا ما يطرحه جل المشتغلين في هذا الحقل، وعندما تتسرب الأيدلوجيا كنسق فكري أو نهج تتراجع هذه القيمة الأساسية للفن، يغدو المبدع المرتبط بأيديولجيا خادما لها هو ونصه، فينسلخ عن نذره الجمالي ليبرر ما ترتكبه المشاريع الفكرية أو السياسية الكبرى من عنف وإقصاء، ويضيف العوكلي: تورط الكثير من المبدعين الكبار في مثل هذا الامتثال الغنائي لأحلام الأيديولوجيا وسكتوا عن جرائمها أو برروها باعتبارها تمثيلاً إجرائيا لأحلامهم كمبدعين، أمثلة كثيرة على مثل هذا التناغم بين العنف والإبداع، ويبدو أن الشعر كأقرب الفنون للغنائية كان الأكثر اندماجا؛ حماس مايكوفسكي لستالين أو عزراباوند لموسليني وبعض شعراء الرومانسية الألمان لهتلر، كما اتسم معظم الشعر العربي القديم بهذا التماهي بين أحلام الساسة ونزعة الشعراء وتحول إلى أحد المحرضات الفاعلة في الحروب، والدعوة للثأر، واستلهام سياقات شعرية عديدة تتغنى بالسيف وبالدماء وبالأبطال الفاتكين. يقول مارسيل أيميه : “نقطة ضعف الكتاب، جلهم تقريبا، أنهم يقدمون أفضل ما عندهم وأكثر ما كتبوه تفرداً وذلك للحصول على وظيفة ماسحي أحذية في السياسة”. ورغم هذا الرأي القاسي إلا أن ثمة غزير من الكتابة التي تخلص لنذر الفن الأصيل كأغنية للجمال والسلام والتسامح، إبداع بسبب طبيعته الهامسة عادة لا يكون مسموعا، أو غير مخدوم بدعاية الأيديولجيا الحاكمة التي كثيرا ما تسيطر على وسائل النشر والإعلام. ثمة متحف عظيم لفنون تدين الحروب والعنف والعنصرية، من موسيقى وتشكيل وشعر ونحت وسرد، تشكل في مجملها ضمير الفن ونذره .
ويرى العوكلي أن ثمة عنف آخر يمارس داخل الحقل الإبداعي نفسه سواء عن طريق النقد أو الإقصاء المتبادل أو صراع المذاهب والحركات الفنية بشكل ذهب البعض إلى تسميته بالحروب، وممارسو هذا العنف الناعم عادة ما يتسرب عنفهم أو إقصائهم إلى المجال الاجتماعي.
الفن الذي لا ينتصر لقيمة الإنسانية المهددة بكل ضروب التلوث والعنف والقهر سيظل يحمل إثمه التاريخي في ذاكرة حبره حتى وإن كان فنا عظيم الصنعة أو التأثير، يختفي الطغاة ويبتلعهم النسيان ويبقى الفنانون أو الشعراء الذين تماهوا معهم عراة أمام التاريخ عموما وتاريخ الفن خاصة .
_______
* شاعرة وإعلامية من ليبيا