*أروى عيتاني
هو ذاك الممثّل «عالصّوت». لكلّ من هو من جيلي، هو زياد الرحباني الممثل الاذاعي فقط بالنسبة إلينا، والموسيقي صوت وصورة. وعندما قرّر الظهور من جديد كان لا بدّ لنا من التهليل، لأنّنا وأخيرا سنراه كممثّل على المسرح. ممثل خاضع لإدارة مخرج ونص وكل ما هو تحت السيطرة. ممّا لا شك فيه بأنّ لينا خوري منحت عددا كبيرا من الجمهور الفرصة الذهبيّة للقاء زياد، وتحملت كلّ ما قد يقال على لسان من أتى بحكم مسبق عن زياد أو رشيد او زكريا او نور. لينا سبق وقدّمت عرضها هذا بعنوان «مذهب» على مسرح الجامعة اللبنانيّة الاميركية، المستوحى من عرض للممثلين والاوركسترا لتوم ستوبارد واندريه بريفين التي كتباها من وحي السجون السوفياتية ومعسكرات العمل القهري. وها هي اليوم تعيد التركيبة على مسرح المدينة، إنّما مع ممثلين محترفين: غابريال يمين، ندى بو فرحات، اندريه ناكوزي، ألين سلوم والاوركسترا. أما الإعداد الموسيقي فمن أسامة الخطيب.
في بقعة من العالم العربي دارت الأحداث. داخل غرفة او زنزانة مصح نفسي يقبع مجنون يسمع اوركسترا خفيّة داخل رأسه، وصحافية سجنت بسبب مقال فشكّك في هويتها الجنسية. عالم تائه بين نظريّات الحكم والقمع والتربية، والتطرف الديني الذي ارادت لينا ان يكون ركــيزة نصّها، وتصنيف هوية المجنون والعاقل. ومِن أفضل مَن شرح النظرية زياد الرحباني او الطبيب النفسي. هي من المرّات القليلة التي يختلط بها اناس المسرح أنفسهم الذين يلتقون معا في كل مناسبة، مع الناس العاديين عشّاق زياد الرحباني، الذين أتوا فقط لفرصة مشاهدته في ليلته الاولى.
بالطبع، في المقام الاول، كانت الانظار تنتظر زياد بعيدا عن النص والسينوغرافيا. لكن مع بداية الأحداث، غابريال يمين المجنون قائد الاوركسترا الوهمية أو غير الوهميّة اثبت بسرعة بأنّنا امام ممثل لا يستهان به، أعطى سريعا ثقلا لهذه الشخصية الخفيفة الظل والمتطرفة جدا، مع ندى بو فرحات التي ضحّت بشعرها للدور، لتكون نهاد نون او ناهدة نون، سجينة الرأي، فاستطاعا ان يشدّا الانظار قبل دخول زياد. ومع دخول زياد في اطلالته الاولى، سرعان ما دبّت حركة الجمهور لاحتضان هذا الممثل بعد غياب. لكن الامر الذي بدا جيّدا، هو أنّ المخرجة لم تتعامل مع زياد كالرجل المميز وسط المجموعة، فكان ممثلا أتقن دوره الى أقصى حدود، وأمسك بأبعاد هذه الشخصية العجيبة للطبيب النفسي القلق هو احيانا، مع نبرة صوت هادئة، وطريقة إلقاء للنص اختلط فيها أسلوبه بأسلوب تمثيلي منحنا متعة رؤيته ممثلا طريفا ولو بدا مرتبكا قليلا، وله الحق في هذا، في ليلة أتى الكل فيها لمشاهدته. هو وغابي قدما مشاهد ديو رائعة، بإيقاع عال مع الاوركسترا، فكانا لاعبين ماهرين قدّما للعرض الكثير مما افتقده أحيانا في التركيبة المشهديّة الضعيفة في جوانب عديدة، الامر نفسه مع مشاهده مع ندى. المجموعة كانت كفيلة بتحريك نص لم يكن بقوّة ممثليه، نص تألق فقط على لسان الممثلين. أحيانا كان الايقاع يتهاوى بسبب التركيبة الدرامية، خصوصا مشاهد الزنزانة، ومشهد الابنة والمعلمة وانتقاد النظام التعليمي، الذي بدا ضعيفا ولم يكن متماسكا فعلا مع باقي الاحداث، وفي حاجة إلى إطار مناسب أكثر. لا نعلم لو زياد ارتجل قليلا في حواراته، لكن مما لا شك فيه أنه فعلا كان الممثل الطيّع في أدائه، وأضاف بُعدا جميلا جدا لهذا الدكتور الذي لا يعالج الا من خلال حبوب، هو نفسه لا يعرف الجدوى منها.
لينا قدمت ورقتها الرابحة مع ممثلين انسجموا مع بعضهم البعض بطريقة لافتة، ندى بو فرحات اثبتت حضورا مختلفا هذه المرّة، وكان أداؤها مميزاً وسط غابي وزياد، وطبعا حضور اندريه ناكوزي لفتنا، لكنه احتاج إلى ضبط أكثر، لان الكاريكاتورية التي قدمتها تفلتت منها احيانا فبدت صورة اكثر من أداء. الاوركسترا كانت عنصرا تمثيليا قويا لمخرجة عوّلت عليه كثيرا في سير الأحداث. «مجنون يحكي» عرض استمتعنا بممثليه، وربحت لينا رهانها بعودة المشاكس الجميل زياد الرحباني.
_________
*(السفير)