*كمال الرياحي
( ثقافات )
ظل الأدب الإفريقي على أهميته مجاهل غفلا للكثير من القراء العرب، على الرغم من تنوع هذا الأدب تيميا وفنيا ولغويا، ونجاح هذا الأدب في الحصول على جائزة نوبل مرات كما هو الحال مع جون ماكسويل كويتزي ونادين غورديمر من جنوب افريقيا وسوينكا من نيجيريا.وتعبر السينغال واحدة من من أهم البلدان الإفريقية التي قدمت للعالم تجارب أدبية راقية لعل الشاعر الرئيس سيدار سنغور أهمها.
المترجم التونسي جمال الجلاصي الذي سبق وترجم رواية “السيد الرئيس” للقواتيمالي ميغايل أنخل أستورياس، أختار منذ مدة الالتفات إلى الأدب الافريقي ونقل إلى العربية الأعمال الكاملة لسانغور ورواية سينغالية غاية في الطرافة هي “اضراب الشحاذين” للكاتبة أميناتا ساو فال بدار اروقة.
وتعتبر اميناتا ساو فال أحد القامات الأدبية في السينغال عاشت مدة في فرنسا قبل أن تغادرها إلى بلدها ملتحقة بوزارة الثقافة، من أهم أعمالها: نداء ساحات الحرب والعائد والأب الما قبل الوطن. لتبقى ” اضراب الشحاذين” رائعتها الروائية
الشحاذون يضربون
التفتت الروائية إلى مجموعة من المهمشين، الشحاذين، لتقتحم عوالمهم المعقدة وتقاربها روائيا و تجعلهم يتصارعون مع السلطة صراعا استثنائيا. فتروي الرواية حكاية تمرد الشحاذين واضرابهم عن العمل ورفضهم تقبل أي صدقات ورفع صحافهم. تبدو الحكاية مضحكة، فماذا يعني أن يضرب الشحاذين المطاردين من السلطة بسبب ما يخلقونه من قلق للناس وللسياحة فهم مجموعة من “المتسولين، المجذومين، أصحاب الأجساد المريضة، الخرق المكوننين للنفايات البشرية. فضلات الناس الذين يهاجمونك ويعنفونك..” كما ورد في الرواية غير أن الروائية تخلق من هذا الجنون الذي ارتكبه الشحاذين مأزقا لأحد أعضاء الحكومة الذي سيحتاجهم دون سواهم لتحقيق طموحه المهني.
بين “شحاتي” عبد القدوس إلى شحاذي ساو فال
يصاب بالدهشة من قرأ قصة: اضراب الشحاتين” لاحسان عبد القدوس أو شاهد الفيلم المقتبس منها، الذي حمل نفس العنوان، وقرأ بعد ذلك رواية أميناتا ساو فال, فالتشابه بين الحكايتين لا يقف عند العنوان فقط بل تكاد الفكرة تكون نفسها .
كان احسان عبد القدوس قد نشر تلك القصة في عدد من مجلة روز اليوسف سنة 1957 بعنوان طول ” اضراب الشحاذين من أجل الوحدة والتضامن” تروي القصة حكاية تاجر كبير تعود أن يقيم وليمة في شهر رمضان يستقبل فيها الشحاذين ويطعمهم، غير أنه في تلك المناسبة من أحد الأعوام وبعد أن جهز كل شيء لم يطرق بابه أحد من الشاحذين ، فأرسل خادمه يطلبهم من جامع السيدة زينب، فرفضوا الدعوة، وعندما سمع التاجر جواب الشحاذين غضب واعتبرها اهانة ورأى أنه سوف سيصبح أضحوكة المدينة كلها وستبور تجارته فهو الرجل الذي رفض الشحاذين دخول بيته، فارسل خادمه من جديد باغراءات جديدة تتمثل في خمس قروش لكل متسول زيادة على الأكل، فجاءه الجواب المدوي من المتسول “نكلة”: لا لن نذهب إلا إذا أجيبت مطالبنا كلها، وهتف أبو ذراعين: عاش التضامن، عاشت الوحدة، وقال الأجرب: إننا نطالب بحقوقنا في مال الأغنياء، والكرماء محتاجون للشحاتين كما أن الشحاتين في حاجة إلى الكرماء، ولولا الشحاذون ما كان هناك كرماء فتمسكوا بمطالبكم، مطالبكم مطالب حق”.
هذا هو المشهد نفسه الذي نقرأه في رواية أميناتا ساو فال ؛ قصةالوزير الذي أطرد الشحاذين من المدينة ثم أخبره عرافه أنه سيصبح نائب الرئيس خلال ثمانية أيام إن قدم ثورا صدقة لسبع وسبعين متسول، وحاول بعد ذلك بكل الطرق استعادتهم دون جدوى حتى تنقل بنفسه الى مخبئهم وهناك كانت مواجهة كاريكاتورية لوزير يستجدي الشحاذين للعودة الى الطرق وقبول صدقته التي فيها نجاته وفوزه بنيابة الرئيس. وبعد مفاضوات طويلة تحمل فيها سخريتهم اللاذعة وعدوه بالمجيء ومن الغد كان الوزير يطوف المدينة بسبع وسبعين كيس من اللحم باحثا عن الشحاذين الذين واصوا اضرابهم وأكدوا له قيمتهم في المدينة وعين غيره نائبا للرئيس.
حاولت الروائية السينغالية تفكيك فكرة ضرورة المهمل والمنبوذ وفلسفت فكرة التسول في جدلية هيجلية تذكرنا بثنائية السيد والعبد وألا قيمة لطبقة اجتماعية إلا بوجود الطبقة التي تحتها أو فوقها. وليس القبيح قبيحا طول الوقت فقد يكون ذلك القبيح حبل نجاتنا.
رواية يمكن مقاربتها سوسيولوجيا كما يمكن أن تكون نصا مثالا لناشطي حقوق الانسان والمدافهين عن حق المتسولين في العالم فهاهو أحد الشخصيات يصرح:إذا كنا نتسول فلأن الفرص لا تتساوى عند جميع البشر، ولأن الأكثر ثراء عليه أن يعطي جزءا مما عنده للفقراء، هكذا تقول الديانات، بتسولنا نحن لا نطالب إلا بحقوقنا”.
يبقى إن هذا التشابه بين النصين غريب حتى في اسقاطاتهم السياسية وإن كنا لا نرجعه لا الى سرقة ولا حتى إلى تناص إنما نغلب أن أصل الفكرة ربما من المتداول الشعبي القديم وضفه احسان عبد القدوس في نصه المصري وأرضنته ساو فال سينغاليا وتبقى الفكرة تجوب افرقيا وربما عبرتها إلى أصقاع أخرى من العالم.
ــــــــــــ
روائي وناقد تونسي
المصدر الجزيرة نت