سيرة بمداد مختلف:«أثقل من رضوى»



*

يبدو أن أصحاب القامات، كالدكتورة رضوى عاشور، يبدعون في أي لون أدبي يطرقونه، رواية أو قصة قصيرة أو سيرة ذاتية أو حتى نقداً، وكأن أقلامهم تسيل بمداد مختلف عن الآخرين، وهو ما يبرز بشكل جلي مع رضوى عاشور التي أصدرت حديثاً سيرة ذاتية شديدة الإمتاع والدهشة، إذ تحفل بخلاصة مسيرة طويلة مع الكلمة، وقبلها تجارب حياتية متنوعة المحطات والمسارات، حافلة بأسماء طيبين ومخلصين، وأيضاً إشارات إلى سواهم من حملة مباخر السلاطين، والمهووسين بغرس الأشواك في دروب المبدعين وأصحاب المبادئ.

تأتي سيرة صاحبة «ثلاثية غرناطة» و«الطنطورية» تحت عنوان «أثقل من رضوى.. مقاطع من سيرة ذاتية»، ويرتبط الاسم بمثل عربي قديم، فجبل رضوى بالسعودية كان يضرب به المثل في الرسوخ، فيقال «أثقل من رضوى»، وتشير صاحبة السيرة إلى أن جدها (عبدالوهاب عزام) هو الذي تخير لها اسمها «رضوى» تيمناً بذلك الجبل المكين.
تجمع «أثقل من رضوى» التي صدرت حديثاً عن دار الشروق بين الخاص والعام، الذاتي والموضوعي، لتتشابك في صفحاتها يوميات التجربة الشخصية بالهم العام، مشاهد من الثورة وهتافات من ميادين الحرية ومدرجات الألتراس تتداخل مع تجربة المرض ومشارط الجراحين الذين يحاولون استئصال «ورم حميد» في أحد المستشفيات بخارج مصر.
تسرد كذلك رضوى عاشور، التي فازت بجائزة العويس الثقافية، رحلتها مع الجامعة كأستاذة ظلت تدرّس لنحو أربعة عقود، حتى صار لتلامذتها تلاميذ، وتروي كفاحها هي وحركة «9 مارس» من أجل استقلال الجامعة، والمعارك التي خاضوها مع الأمن وأذنابه من زملاء العمل الجامعي، وكتبة التقارير. ترصد الدكتورة رضوى في سيرتها ذلك، وتفصل معاركها حينما كانت رئيسة لقسم في كلية الآداب بجامعة عين شمس، ولا تنسى أن تعدد أسماء تلامذتها الذين شاركوا في ثورة 25 يناير في مصر، وعلى رأسهم نوارة نجم وسلمى سعيد وسواهما كثير، وكذلك ترسم الكاتبة صوراً لشهداء سقطوا في معارك التحرر، وبقيت صورهم على الجدران في مصر، وكذلك في كتب لن تموت، ومن بينها سيرة رضوى عاشور، التي لم تنس شهداء مثل علاء عبدالهادي طالب الطب، وكذلك مينا دانيال، وخالد سعيد، والعديد غيرهم الذين أصيبوا في تظاهرات.
وبحزن حقيقي تتحدث الروائية عن غيابها عن مصر لحظة وقوع الثورة، وكأنها لم تكن في رحلة علاج ربما كانت مهددة بعدم الرجوع منها سالمة.
تقول صاحبة «أثقل من رضوى»: «بعد أيام أتم السابعة والستين، قضيت أربعة عقود منها أدرّس في الجامعة.. صار بعض من درّستهم أساتذة لهم تلاميذ.. لا يا سيدي القارئ لا أستعرض إنجازاتي قبل أن أنهي الكتاب، بل أحاول الإجابة عن السؤال الذي طرحته في أول الفقرة.
لن تنتبه أنني في السابعة والستين، لا لأن الشيخوخة لا تبدو بعد على ملامحي، ولا لأنك لو طرقت بابي الآن ستفتح لك امرأة صغيرة الحجم نسبياً ترتدي ملابس بسيطة، شعرها صبياني قصير، وإن كان أبيضه يغلبه أسوده، يكاد يغيبه، ليس لهذه الأسباب فحسب، بل لأن المرأة، وأعني رضوى، ما إن تجد الشارع خالياً نسبياً، حتى تروح تركل أي حجر صغير بقدمها اليمنى المرة بعد المرة في محاولة لتوصيله لأبعد نقطة ممكنة».
تروي المبدعة المصرية في سيرتها ذكريات الطفولة، والأمكنة الأولى التي شبت فيها، وتعلمت الخطى بين جنباتها، بجوار أب (مصطفى عاشور) محامٍ عاشق للغة العربية، وأم (مية) أحبت الرسم والعزف على البيانو، لكنها قدمت صغارها على كل ذلك، ووهبت مواهبهم لهم.
وكما يحضر الأب والأم، يحضر الزوج والابن، مريد البرغوثي وتميم البرغوثي، يبرزان في صفحات عدة في السيرة، بجوار الزوجة الأم، خصوصاً في لحظات الألم، وتجربة المرض التي أخذت سنوات من الروائية المصرية، وتذكر كيف تابعت «عائلة القلم» مجريات «الربيع العربي»، وكيف كان الابن الشاعر تميم البرغوثي ينكب على حاسوبه الشخصي ليراقب ما يحدث في تونس ومصر، وكيف كتب الابن أغنيته الشهيرة التي صدحت في ميادين التحرر: «يا مصر هانت وبانت كلها كم يوم»، مشيرة صاحبة السيرة إلى لحنها العبقري من قبل صاحب البصيرة الموسيقار المصري مصطفى سعيد.
________
*عن (الإمارات اليوم)

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *