*د. زكية نجم
كان بيتنا القديم الذي ولدتُ به مُزداناً كغيره من بيوت القرى بحديقة خلفية فسيحة الأرجاء بها أنواعٌ شتى من الأشجار والشتلات..
كان شقيقي عمر آنذاك طفلاً صغيراً يتهجأ خطواته الأولى حبواً على أطرافه الأربعة ولم يكتشف بعدُ سرّ الوقوف.. كنتُ أكبره بثلاث سنوات أي في الرابعة من عمري تحديداً.. بحديقتنا كانت هنالك شجرة برتقال ضخمة.. كنت دائماً أحب تسلق قامتها الفارعة ببصري وتأمّل ثمار البرتقال المتكوّرة بين فروعها المتشابكة..
ربما لم يكن للشجرة ذلك القدر الكبير من الطول لكن هاجس الطفولة رسم في ذاكرتي وهْمَ الاستطالة.. كنتُ أرفع رأسي عالياً وأقف على أطراف قدميّ لأرى بوضوح نهايتها.. كل الصور التي أتذكرها الآن كانت تتميز بالعلو والضخامة.. الأشجار ضخمة.. الأبواب كذلك.. مقابض الأبواب ضخمة أيضاً وبعيدة عن متناول يدي، بل من الصعب أن أستطيع الإمساك بها دون الاستعانة بشيء ما أصعد عليه.. فتحُ الأبواب الموصدة كانت مُهمة سهلة وبوسعي أن أوجدُ لها في كل مرة حلاً يبتكره ذهني الصغير بذكاء، أما ثمار البرتقال فلم يتجرّأ عقلي على خوض مجازفة مرتهنة بالسقوط كصعود شجرة مثلاً.
ذات صباح وبينما كنت ألهو في الحديقة.. رأيتُ هراً صغيراً مُعدماً لا يكاد يقوى على الحركة.. ظننته على وشك الموت.. كان يرتجف بشدة.. حملته بخوف وركضت به إلى أمي.. سكن جسده الضئيل بين ذراعيّ الناحلتين وكفّ عن الارتعاش.. أخذته مني أمي.. انتظرتُ منها أن تقول لي بأنه قد مات.. أو هكذا تصورت لشدة ما كان عليه من سوء.. أسقيناه حليباً وتحسنت صحته شيئاً فشيئاً وعاش بيننا كأحد أفراد العائلة.. كنت أجد برفقته متعة اللعب الحقيقية وكنا لا نفترق إلا في المنام فقط.. بعد شهور كبر قليلاً وبدأت طريقته في اللهو تتخذ جانباً نزقاً يثيرني.. كان يصرّ على خدش أطرافي بطريقة مؤلمة كلما اقتربتُ منه.. ذات مرة غرز مخالبه بذراعي وبرزت على جلدي خطوط حمراء طويلة وناتئة.. مازلت أذكر وخز الخدش في أوردتي حتى اليوم لشدة الألم الذي داهمني لحظتها.. أمسكته بغضب.. دفعتُ طاولة خشبية صغيرة.. صعدتُ فوقها وقذفتُ به من النافذة المُطلّة على الحديقة.. مضى زمنٌ ليس بطويل بعد رميي إياه.. نسيتُ البكاء بعد أن هدأتْ حدة الألم في ذراعي.. أخذت ألهو مع عمر وأفتعل الحركات المضحكة كي تتصاعد كركراته الطفولية العذبة.. جاءت أمي وحملته لينام.. وقفتُ بالباب الذي يُفضي إلى ساحة الحديقة.. كان الجو حاراً جداً.. تلك الحرارة التي دفعني تيارها لأهرب وأتكوّر في زاوية باردة بوسط الدار.. أهجع فيها كعصفورِ ناعس فراراً من لهيب الشمس.. تذكرت قطّي الصغير.. شعرتُ أنني ربما سأسامحه على عبثه وإيلامه لي.. نهضتُ.. تسلقت الطاولة مرة أخرى وفتحتُ النافذة التي رميته منها.. نظرتُ إلى الأسفل.. اتسعتْ عيناي.. فرّتْ صرخةٌ من حنجرتي.. كان ينتفض ببؤس وقد أخرج لسانه عطشاً.. برز سؤالان حادّان في رأسي: لماذا لم يغادر المكان الذي رميته فيه؟ لماذا لم يبحث بالحديقة التي أمامه عن ظل شجرة يقي جلده حرقة الهجير؟.. ركضتُ حافية القدمين إلى الخارج.. لم أستشعر لسع الرمضاء لقدميّ.. بكيت وتألمت كثيراً لحاله ومنذ ذلك اليوم لم نفترق حتى في المنام ولم تعد لأظافره شراستها الماضية.. بعد ثلاثة أعوام.. كبر هرّي الصغير.. كبرتُ أنا وانخرطتُ في سلك المدرسة.
في أحد الصباحات الربيعية.. كان النهار صحواً ومُغرياً بالتنزه.. ركضنا أنا وعمر بين الأشجار.. وبينما كنا نلهو رأيت تحت شجرة الحنّاء عصفوراً صغيراً ساقطاً على الأرض.. حملته برفق وركضتُ به كالعادة إلى أمي.. اكتشفنا جرحاً غائراً في جناحه..
قالت لي أمي إنه ربما قضمةٌ لأنياب حيوانٍ حاول افتراسه قبل مجيئي.. مكث ذلك العصفور بيننا بضعة أيام.. اعتنيتُ به حتى أصبح له حدقتان برّاقتان تتسعان كلما مررتُ أصابعي فوق ريشه الجميل وهمستُ له أنه جرحه سيلتئم قريباً وسيطلق جناحيه للسماء.. في أحد الأيام كنتُ عائدة من المدرسة ظهراً.. رأيت في فناء الدار ريشاً متناثراً هنا وهناك.. كان رمادي اللون ويشبه ريش عصفوري جريح الجناح.. بحثت عنه.. لم أجده في الدار.. بحثت طويلاً بالخارج دون جدوى.. قرب شجرة الرمان رأيتُ منظراً أفزعني وارتخى فكي الأسفل لهول المفاجأة.. كان قطّي رابضاً تحت جذعها وفمه ممتلئ ريشاً بينما بقايا العصفور تتناثر قربه.. حالما رآني أصدر مواءً حاداً وفرّ هارباً.. خيّم الذهول على ملامحي.. شعرتُ بقشعريرة باردة تسري داخل أوردتي.. لم أعرف حينها أيهما يستحق مني الشفقة أكثر.. القط أم العصفور.. لكنني أدركت فيما بعد أنها حربٌ أزليّة لأجل البقاء.. أن يجد الكائن من يقضي عليه ليعيش هو!
_______
*قاصة من السعودية(المجلة العربية)