زمن “الشذرة” الشعرية


*شاكر لعيبي

اليوم يزداد الشعور، في العالم العربيّ عبر وسائط التواصل الاجتماعيّ، بأن الكتابة وفق نمط “الشذرة” الشعرية يستجيب للحسّاسية الأدبية الراهنة. ويتزايد أعداد الشعراء والكتاب الذين يلجأون إليها من أجل التعبير عن رؤاهم ومزاجاتهم واستعاراتهم، وتصير بديلاً للنص الشعريّ المعروف، وللقصيدة كما ألفنا كتابتها في شعرنا المعاصر.

ليست الشذرة اختراعاً عربياً كما يُوْحَى مداورَةً، وليس من مبتدعات وسائط الاتصال الحديثة بالطبع.
الشذرة ( = نبذة، نتفة) شكل أدبيّ نثريّ ذو اختصار كبير. وهو ضارب في القدم ويوجد في جميع اللغات، لكن ليس كنوع أدبيّ منفصل معترف به ومقعَّد، وإنما كممارسة أدبية وفلسفية مهمّة تلتقي من أوسع الأبواب مع الشذرة الحديثة المُقّعَّدة. يشار غالباً إلى أن الفلاسفة اليونانيين الكونيين هم مبتدعو الشذرة، مثل طاليس وأنكسيمندريس وأنكسيمانس وهيراقليطيس وفيثاغورس وأكسانوفان وبارمنيدس وزينون وأنبادوقليس وأنكساغوراس ولوقيبوس وديمقريطيس.
ويجري الخلط بين الشذرة والجملة الحكمية المختصرة Aphorisme كما تظهر عند هؤلاء الفلاسفة اليونانيين، وغيرهم من الأدباء والحكماء العرب اللاحقين في تراثنا الأدبيّ. 
إن هذه المرجعيات للشذرة المُشْعْرَنة المعاصرة، تذكِّر المرءَ بالمرجعيات التي حاول البعض اقتراحها لقصيدة النثر في الأدب العربيّ. في الحالتين هناك تناسٍ (للقصديّة) في كتابة نص شعريّ خالص، يستند إلى المخيَّلة والمفاجأة في حالة الشذرة حتى وإن كان حكيماً، ويستند إلى معايير الشعرية الصافية في حالة قصيدة النثر حتى وإن خلط بين النثر والشعر. الجزئيّ والساخر والشموليّ من ميزات الشذرة المعاصرة التي يصعب إيجاد مرادفات لها دائماً في الشذرة الحكمية اليونانية.
يرى بعض الباحثين أن الشذرة بالمعنى الحالي تمتد إلى حوالي عام 1000م عندما جردت الشاعرة اليابانية سيي شوناغون، وهي مرافقة للإمبراطورة ساداكو، في عملها “ماكورا – نو – سوشي” (حرفياً: قصائد الأذُن) ما تحبّه وما تنبذه، المضحك والحزين، مفتتحة بذلك نوعاً أدبياً يسمى الـزويهيتسو، الأقرب للشذرة اللاحقة.
في فرنسا استخدم الفيلسوف باسكال في البدء هذا النمط. إكزافييه فورنيريه استأنف كتابة سلسلة شذرات دون عنوان تتميز بالطرفة السوداء. فيليكس فينيون يندرج أيضاً في كتابة الشذرة الواعية القصدية بقصصه ذات السطور الثلاثة. آخرون من حينها استخدموا الشذرة أداة تعبير، منهم رولان بارت وجورج بيريك وهرفيه لو تيلييه وميشيل غرانغو ولورين بودولا وهنري ميشو وسيوران وكريستيان بوبان.. الخ.
في أدب أمريكا اللاتينية وَسَمَ الكاتب أوغوستو مونتيروسو تاريخ الأدب بكتابة قصص قصيرة جداً باللغة الإسبانية (منها قصته الشهيرة الديناصور) لم يتجاوز أحدٌ اختصارها إلا عام 2005 على يد لوي فيليب لوميلي.
تصير العودة للشذرة اليوم، في وقت جدّ متأخر عن التراث اليونانيّ والعربيّ واليابانيّ والأوربيّ، احتفالية يومية في وسائط التواصل الاجتماعي، سواءً كانت مكتوبة على يد محلية أو مترجمة من لغة أجنبية، لأنها تستجيب للآنيّ، الشعريّ أو الحكْميّ الذي يحتاج إليه وسط عريض، لا وقت لديه للقراءات المعَّمقة، لكن تلزمه لذة النص وحكمته واختصاره في آنٍ واحد، في سياقٍ ثقافيّ وسياسيّ سريع الإيقاع، لم يعد يؤمن بالكلام المنمَّق السائد، غير المُقْنِع برغم تماسُكه الظاهريّ المنطقيّ.
الشذرة تجيب على حاجة ثقافية، وعلى حسّاسية جيل جديد يُفضِّل التلميح والاستفزاز والجمال المُعارِض، وتستجيب لسرعة الكلام المؤقت في وسائط مُسْتحدَثة لا تسمح بالإطناب.
هل تكفي الشذرات وحدها لخلق “شعرية” حكيمة تشدُّ يقيناً شطراً فاعلاً من ثقافتنا إليها، من دون الأصول والدوافع والشروط التي خرجت منها؟. من الصعب قليلاً تخيُّل ذلك.
________
* شاعر وأكاديمي من العراق(المدى)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *