* يوسف يوسف
( ثقافات )
يشبّه الشاعر والمسرحي الشهير ( هنريك إبسن ) عملية كتابة الشعر بالجلسة يقضيها الشاعر في تعذيب نفسه ، وذلك في إشارة إلى ما يعتوره من العذاب والألم إبان عملية الكتابة ، وبالتالي فهو الذي تصحّ مقارنته ب ( جمل المحامل ) كما يقال في العربية ، عند الرغبة بالتلميح إلى الانسان الذي لا تخفّ الأحزان التي يحملها على ظهره ولا ينوء بحملها مهما تعاظمت واشتدّت . ولطيف هلمت الشاعر الكردي الذي ما انفكّ يضرب عصا الترحال في أقاليم الشكل والمضمون كلها ، يعتبر واحدا من أهمّ أولئك الشعراء الذين قصدهم إبسن صاحب (عدوّ الشعب ) و(البطة البرية)،ويأتي ديوانه ( الريح لا تصادق أحدا )(1) الذي تحتلّ ثيمة الشعر والشاعر مساحة واسعة منه ، ليؤكد هذا الأمر ، ولقد قصد هلمت من الذهاب إليها ، ليس فقط تصوير عذابات الكتابة الشعرية ، وإنما توضيح رأيه كمبدع له رؤية نقدية في الشعر ووظيفته ، والشاعر وصفاته .
أي أن فعل كتابة القصيدة في تجربة هلمت وبحسب ما يؤسس له ، أقرب ما يكون إلى العمل الذي يوجب على صاحبه تحطيم جمجمته ، التي تجتاحها في حالة الشعر وبشكل متواصل عواصف التفكير الحادّة ، إبان عملية الكتابة ، أو كما يقول
( انهالوا على الأرض ضربا بالمعاول/ بحثا عن نبع تائه / فتشوا البحار كلها / من أجل كيس من الملح / وأنا هشمت جمجمتي / بحثا عن قصيدة جديدة )(ص9) . إن فعل الكتابة هذا الذي يضع هلمت فيه نفسه إلى جانب الحفارين بالمعاول والباحثين عن الملح في مياه البحر ، يحتم عليه المكابدة المريرة ، وهو يغوص في أبعد طبقات النفس ، كمثل أولئك الذين يغوصون بمعاولهم في أبعد طبقات الأرض ، بهدف استخراج كل ما في منجمه من الطاقة الدفينة لإنتاج نصّ شعري جميل ، يكون قد حدّد مهمته بوجوب أن يمنح للحياة بهجتها ، وللانسان من دوافع الثورة على الواقع ما يحرّره من القيود التي تحدّ من فاعليته في الحياة ، على اعتبار أن فعل كتابة القصيدة ، أو صناعتها ، وكما يتصوره ، لن ينتهي بالوصول إلى بناء المعمار الفني الذي سيصبّ فيه كل ما تعتمل به نفسه ، وإنما هو عمل كبير في البحث عن معنى جديد ، يقيّض للمتن الشعري أن يكون انعكاسا أمينا لزمان ومكان معينين ، قبل وصوله إلى حالتي المطلق والأزلية ، وهما مما يمنحان القصيدة دنيويتها باعتبارهذه الدنيوية واحدة من سنن الخالق في مخلوقاته جميعها ، وليس في الانسان لوحده . ولعلّ الاشارة إلى دنيوية القصيدة هنا ، تفيد في التنبيه إلى ماهية الدور الذي ينبغي أن يقوم الشعر به في الحياة – حياة المجموعات البشرية التي ينتمي الشعراء إليها – ووجوب انتمائه إلى بيئته ، على اعتبار أنه في توصيف آخر له : فعل اجتماعي يقوم به فاعل هو الشاعر، الذي عليه التسلح بحدّة النظرة إلى ما حوله من الموجودات والأشياء والأحداث ، وقصيدة ” الأمل ” التي تتخذ من المحاورة بين الشاعر وشجرة عجوز أراد قطعها بفأسه شكلا لها ، تفيد في توضيح هذا الذي نتقدّم به ، وفيها يقول هلمت على لسان الشجرة وهي توصي الشاعر ( إن قطعتني .. لا تصنع مني بابا لغرفتك ) . ثم تضيف وتقول ( إصنع مني تابوتا للطغاة والقتلة ) (ص8) .إن الشجرة بما توصي به الشاعر، إنما تضعه ، أو لعله الشاعرهوالذي يضعه وعلى لسانها ، في مواجهة قدره الذي يتمثل بمواجهة الطغاة والقتلة ، وهي المهمة التي ينتدب هلمت الشاعر الذي يبشر به للقيام بها. بيد أنه ومن أجل اكتمال عملية استيعاب وفهم تجربة الشاعر لطيف هلمت ، والكشف عما فيها من ملامح كل من الشعر والشاعر التي يحدّدها ، لا بدّ أن يمتلك القارئ من المقومات ما يؤهله للقيام بتفكيك ما يقرأه ، ومعرفة ما فيه من العناصرالمؤسسة (بكسر السين الاولى وتشديدها وفتح الثانية) التي ستقوم عليها إمارة الشعر التي يسعى هلمت لبنائها .
وهذه الامارة من أجل تجاوز حدودها الخارجية والذهاب إلى داخلها حيث الجمال في التعبير ، والثيمات التي هي ثمارها الطيبة ، توجب على القارئ أيضا امتلاك القدرة على التأويل ، ورؤية ما تحت قشرة هذه القصيدة أو تلك ، واكتشاف ما فيها من الطاقة السحرية والرموزية ، لئلا تغيب الدالات إلى ما في القصائد من الدلالات ، وهي كثيرة تضاعف حملها من الدرر وما في الشعر من الفتنة وعوامل الإغواء . ولأن لطيف هلمت من طبقة الشعراء الفحول الجوالين بين جغرافيات كل من الشكل والمضمون بلا تراخي ، للدرجة التي يمكننا بسبب هذا تسمية قصائده وهي في أغلبها قصائد قصيرة ب ( القصائد الجوالة ) ، التي لا يتوقف صاحبها في أي من المحطات باعتبارها نهاية المطاف لعمله الشعري ، فإنه يشترط علينا لفهم عالمه الشعري بالاضافة إلى جميع ما سبق ذكره ، عدم تناول أية قصيدة بمنأى عن بقية القصائد ، لأنها جميعها تكاد تشكل وحدة فكرية واحدة ، أو منظومة يجمعها السياق نفسه ، وبما يوجب على الناقد عدم توزيعها بين موتيفات متباعدة ، لا يوحدها رابط جمالي وفكري .
وللقصيدة عند هلمت وظائفها ، وللشاعر صفاته التي يتمّ تحديدها بصرامة
(وحين أمعنت النظر في الشاعر/ رأيته يذوب قطرة قطرة / ويتحوّل إلى لهب)(12). نحن هنا لا نتحدّث عن شاعر احترافي ، وإنما عنه في ثورته الرافضة لمختلف أشكال الماهيات المتجذرة والاستنساخ على مستوى الشكل ، ولها أيضا على المستوى الذي يتحول فيه الشاعر إلى بوق للآخرالمهيمن مستعمرا كان أو ابن بلد ( اجتمعت الكلمات الغريبة / على صفحة بيضاء / فتحوّلت إلى بضع قصائد / متمرّدة على قواعد اللغة اليومية ((ص36) .
عندما تحدّث جيل دولوز في كتابه ” الاختلاف والتكرار ” عن عملية الخلق التي في الكتابة ، فإنما من المدخل الذي لا يتحدّد فيه معناها بتحقيق التواصل مع المتلقي على وفق نظريات التوصيل المتعارف عليها ، وإنما عنها بما يفضي إلى حقن هذا القارئ بما يسميها قتلة الشعوب ” جرثومة المقاومة ” التي هي في نظرنا “بذرة المقاومة ” ، التي على الشاعر أن يحمل رايتها في ” الشعرية الهلمتية ” الشاعر نفسه (من يقول أن الشاعر لا يغدو نهرا / أليس هو من/ يجمع قطرات دمه/ في غمامة القصيدة / ويخلق منها نهرا كبيرا؟)(ص42) ، الذي سوف تزداد عذاباته كلما أوغل في البحث عن غايته ، وكمثل ما نرى في قصيدة ” مكافأة ” التي يقول فيها( أنت تجهلين/ كم يرحل شاعر غريب/ في قارات مواسم الوجد/ حتى يمتطي قمر الخيال/ أنت تجهلين/ كم من العواصف والأعاصير أحترق/ حتى أجد كلمة/ وكم أتمرّغ في الوحل/ إلى أن أصطاد عصفورة قصيدة/ لو تعلمين بذلك/ لأنمتني بين نهديك ليلة حت هزيعها الأخير/ مكافأة لي على كل قصيدة)(ص59) .
لماذ الانحياز على هذا النحو إلى قصيدة هلمت ؟ لربما تكون الدينامية التي فيها دافعا ، وقد يكون انقضاضها السريع الذي يزرع الدهشة الدافع الاخر ، لكنه لا يغيب عن الذهن قول رتشارد هوكارت : إني أقدّر الأدب ، بطريقته الغريبة التي يرتاد بها التجربة الانسانية ، ويعيد تكوينها ، ويبحث فيها عن معنى(2) . إن قصيدة ” تنبيه ” لا بدّ إلا أن تكون هلمتية النزعة والمضمون ، وفيها خصيصة الشاعر الكردي القادر على التحدّث بلسان قومه ، وارتياد أقسى التجارب وإعادة تكوينها لاسترداد تاريخه وإخراجه من عتمة السجون ( ليس بمقدوري.. ان أتحدّث بلسانكم/ لا أعرفكم..لا أعرفكم/ وأنتم أتعرفون من أكون/ أنا ضيف أصابعه عاصفة هادرة/ أنا معجم .. كلماته/ سبقت ميدلا القانون)(ص78).
هلمت الشاعر وهذه خصيصة أخرى مما يفضل وجودها في الشاعر الذي يبشر به كنموذج ، ينزع إلى ” التجريبية المتعالية ” . هي تجريية لأنها تقوم على مبدأ المحاولات المتواصلة ، وهي متعالية ، بسبب انفتاح القصيدة علىكل ما هو متسامي. يقول في قصيدة ” الكوز ” ( الجرّة تنضح الماء/ وقلبي ينضح شهد الوجد/ الغابة تتساقط منها الأغصان/ ويدي تنهمر منها قصائد الجرح/ أعيش في قفص أحلامي/ وحيدا/ أقفص أحلام الشاعر/ أكبر/ أم حدود خارطة الدنيا)(ص22) .
إن الشاعر هذا وعلى وفق ما يراه فيه هلمت من الصفات ، يعيش دوما في صراع مع الواقع الذي يحيا فيه . إنها عملية تثمين الحياة ما تحتم عليه هذا ، ولقد وجدناه يقصي ثيمة الشعور بالنفي الاجتماعي ، لأن الشاعر الذي في وعيه المتعالي ، يأبى الانفصال عن المجموعة التي ينتمي إليها ، وهو ما يفترض وجوده في سلوك الشاعر الذي لا ينفك عن السفر والترحال عبر جغرافيات وأقاليم كل من الشكل والمعنى كما سبقت الاشارة ، من أجل الخلق والابداع والابتكار . وهذا هو الشاعر المتناهي الذي لا يتوقف بالاضافة إلى ما سبق ، عن الحفر في طبقات القصيدة ، وعن الاشتغال على الذات قبل الانشغال بالأغيار (3) . يقول في أحد المقاطع
( أتعلمون/ أن بين كل شاعر/ وقصيدة جميلة/ شفرة طويلة كالنهر/ شاهقة كقمة جبل/ قوية كالفيضان/ حارّة كمياه المرجل)(ص55) .
كان إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني قد تحدّث عما أطلق عليه الوضع الدنيوي للنصّ ، الذي يأتي من علاقة هذا النصّ بظرفيته وبملابسات إنتاجه . وهكذا فمع هذه الدنيوية التي يؤمن بها هلمت وبقوة منقطعة النظير ، سيجد الشاعر نفسه امام عذابات ستختلف حدّتها من شاعر إلى آخر ، ومن مكان إلى سواه ، وعلى وفق ما ستحيل إليه ملابسات وظروف إنتاج النصّ الذي يكتبه ، وقطعا فإن هلمت في فلسفة الشعر من حيث هو فعل اجتماعي بقدر ما هو تعبير فني ، سيضع الشاعر الذي يتراءى له من حيث هو المنتج في وسط مجتمعه وسيكون من واجبه التعبير عن هذا المجتمع ، وهي رسالة الشعر كما يفهمها ( رميت إلى كلب جائع رغيفا/ فانهمر سكين الصوت من صافرة شرطي/ فهرول الكلب الجائع/ لم تهرب أيها الكلب الجائع .. لم؟/ البوليس.. البوليس.. لقد أقبل البوليس/ لست من جنس البشر/ فلم خوفك من البوليس؟/ في الليل أتجوّل وانبح كثيرا/ لذا أخشى أن يتهمني / بالسياسة وتوزيع المنشورات/ ومطاردة الكرى من أعين الناس)(ص52) . هي الرسالة التي على الشاعر من أجل إيصالها ، الثورة على سلطان الصمت ، أو كما يقول ( حين يسترسل الشعر في النوم/ تنمو أعشاب الصمت/ في بقاع الارض)(ص53) .