هوبز : “الحريّة ليست شرطًا للعلمنة”


*فهد بن سليمان الشقيران

مع شروق شمس الخامس من أبريل (نيسان) عام 1588 صرخت أم توماس هوبز وهي تلده في ويستبورت قرب مالسبوري، ولدتْه بصرختين، صرخة ألم الطلْق، وصرخة الغزو الإسباني (أوبري). ولد هذا الفيلسوف الإنجليزي الكبير المؤثر من أب قسيس في المدينة. لتصير تلك الآلام حاثة له على تدشين الفلسفة الأكثر تأثيرا وقوة في المجال السياسي، ولتلهم من بعده ولقرون مجال الفلسفة السياسية، والنظرية المعرفية.

كانت فلسفته مؤثرة لأنها نضجت في ظل أزمة، إذ كانت الحروب الأهلية تنحت أسئلة ملحة في ذهنه، مما جعله يبدأ مخاطرة التبيئة لفلسفة تتناسب والمجال الذي يشهده، حيث تسيد الفوضى، واضطراب استخدام الدين، وانفلات الناس، وصعود «الذئبية» البشرية، ورسوخ طيف الشر.
كان لاتجاه هوبز المادي دوره في فلسفته عموما ذلك أن الفلسفة لديه: «هي معرفة المعلولات effects أو الظواهر appearances كما نحصلها بالتعقل الصحيح ابتداء من معرفتنا بأسبابها أو تولدها، وأيضا معرفتنا بالعلل أو التولدات التي نحصلها من معرفة معلولاتها أولا». استفاد هوبز في نظريته السياسية من أفلاطون وأرسطو، والقديس توما الأكويني، وجان بودان، وتأثر بمكيافيللي بطبيعة الحال لجهة يد الحاكم العليا ذات السلطة المطلقة التي تضبط اضطراب المجتمع. وفي سبيل استعادة رأي هوبز في الحروب الأهلية، التي نشهد مثيلاتها اليوم يمكننا أن نقف على أكثر من مجال أساسي لضرب منابع الحرب الأهلية والقضاء على أوارها.
كان تنظيره صادما وكان يعلم ذلك حين كتب: «أعرف من التجربة كم سيجري التشهير بي بدلا من شكري لأني قلت للناس الحقيقة حول الطبيعة البشرية». وحين نشبت الحرب الأهلية الإنجليزية في 1640 تسربت مخطوطة هوبز «عناصر القانون» وذلك في ذروة الأزمة السياسية. وستتبلور رؤيته حول الأصول الطبيعية والسياسية لسلاطة الدولة في كتابه «اللفياثان» والذي طبع لأول مرة سنة 1651.
بحسب دراسة بيير فرنسوا مورو عن هوبز فإن فلسفته تعتبر أن: «حالة الطبيعة لا تطاق إطلاقا، ولأن المرء يخسر فيها كل شيء، فهو يعطي تقريبا كل شيء في لحظة التعاهد، يجوز للسيد الأعلى المتشكل هكذا سلطة مطلقة ولا شيء يمكنه أن يعارضه بصورة مشروعة». ذلك أن «حالة الطبيعة» التي يكون فيها الناس أحرارا تليها لحظة العهد، وفي الأخير المجتمع المدني، الذي رأى هوبز أنه الحصانة بوجه الحرب عموما، وبوجه الحروب الأهلية خصوصا، لكن ما هي الحرب الأهلية لديه، وما هو السلم وكيف تضرم نيران الحرب على أرض أي مجتمع؟!
ركب هوبز نظريته ضمن سلطة مطلقة للحاكم تمنع المجتمع من ممارسة حماقات الحرب الأهلية، فأصالة الشر هي التي تحرك الإنسان ضد الإنسان، فهو من كتب جملته الشهيرة في ذروة الاحتراب: «لقد أصبح الإنسان ذئبا على أخيه الإنسان». ومن أجل تجنب الحمق البشري، يرى أن تأمين السلم يتم عبر تفويض الأفراد كل قوتهم وكل سلطتهم إلى رجل واحد، أو إلى هيئة اجتماعية، أو جمعية واحدة يمكنها أن توحد الإرادة. في كتابه «اللفياثان» يفصل أكثر حين يطلب من كل شخص أن يقول للرجل أو للجمعية: «إني أفوض كل حقي، وكل حقي في توجيه نفسي».
تجاوز هوبز «الوفاق» الاجتماعي، إلى توحيد الإرادة بالحاكم، ذلك أن على المحكومين أن يطيعوا الحاكم طالما كان قادرا على حمايتهم، وفي نظريته لا يجوز أصلا من الناحيتين السياسية والقانونية وضع حدود على سلطة الحاكم، ولا يجوز حق التمرد والعصيان، لأن الحاكم غير ملزم بأي عقد ذلك أن الحاكم ليس طرفا وإنما هو ممثل للمواطن، وعليه فلا يجوز مساءلته عن الطريقة التي يسير بها الرعية، بقوة «التفويض» للإرادات لهذا الرجل الحاكم كما يشرح عبد الرحمن بدوي، كما أن هوبز لا يعتبر الحرية شرطا للعلمنة.
في ظل كل هذه الحروب الأهلية التي نشهدها، وتفاقم مستوى الدول الفاشلة في المنطقة بسبب الاضطرابات الجماهيرية لا يمكن إلا الرجوع إلى مسألة حافز الحرب الأهلية وباعثها، يعود بنا هوبز إلى الحالة الحربية إذ يعتبرها الأصل بينما السلم طارئ، يقولها: «الحرب ليست سوى الزمن الذي تظهر فيه إرادة استعمال القوة لفظا أو فعلا، السلم ما هو إلا غياب الحرب». الباحث صالح مصبح فصل في كتابه عن هوبز: «فلسفة الحداثة الليبرالية الكلاسيكية من هوبز إلى كانط» في موضوع الحرب لديه، يذكر المؤلف أن هوبز يعتبر: «الحالة الطبيعية هي حالة غياب السلطة، نمط العيش الذي لا بد أن يسود إذا لم يكن هناك قوة عامة قادرة على بث الرعب في قلوب الناس». معتبرا الحال البشرية قبل تكون المجتمع هي ببساطة: «حرب الجميع ضد الجميع».
ببساطة نخلص من هوبز بأن فشل الدولة وهشاشتها هي أساس نشوء الحرب الأهلية، وحين يكون «الاقتصاد» الذي هو عصب الدولة نابضا وحيا فإن الدول تستطيع أن ترسم ممانعة ضد الهشاشة، راهنت دول عربية على التنمية والتفويض الاجتماعي مثل دول الخليج فأنجزت، بينما تتفشى حالات التفسخ السياسي، والاضطراب والهشاشة في دول عربية كثيرة لا تزداد إلا هشاشة تنخر بها. وفق هوبز فإن: «إضعاف الدولة لا يعزز حرية المواطنين، بل يمهد للحرب الأهلية ودمار الجميع».
كل هذا الدمار الذي نشاهده، وتراجع القيم، وتحول مستوى دم الإنسان، ورخص القتل والسفك، إنما يعكس الفشل التام في البحث عن منجى سياسي، حروب يمينا وشمالا واضطرابات شتى ما فتئت تنكأ الجراح القديمة المتجددة، من الطبيعي أن تصبح الحرية خوفا حين يكون وجيب الأقدام على أرصفة الحرية كما يقولون هي الطريق نحو الخلاص، لكن فشل هذا الرهان، ذلك أن: «الخوف والحرية متطابقان، فنحن عندما نرمي في البحر ما نملك، إنما نفعل ذلك خوفا من أن تغرق السفينة» كما كتب هوبز في فصل «حرية الأفراد» باللفياثان.
نستعيد هوبز لأن ظرفه الذي كتب في عصب نظريته السياسية كانت شبيهة بعصرنا، الكل يقتل الكل، والحروب الأهلية بجوارنا ونعتبر أن هذه طوق النجاة، فأي ربيع تنبت فسائله على مجاري الدم.
_______
*(الشرق الأوسط)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *