رسول حمزاتوف .. جسر بين ثقافتين



* أزراج عمر

بدأت الاحتفالات بإزاحة الستار عن التمثال الثاني للشاعر رسول حمزاتوف، وهو ضخم ومتقن الصنع. لقد نصب أمام مقر المسرح المركزي لعاصمة داغستان مكشخالة بعد تدشين تمثال كبير وبديع له في موسكو من قبل الرئيس بوتين، بحضور الأدباء ورجال الفكر والثقافة والسياسة وآلاف الناس صغارا وكبارا ورجالا ونساء في مشهد منقطع النظير.

بعد وضع أكاليل الزهور والتقاط الصور أمام هذا التمثال الثاني، توجهت الوفود إلى الشارع الرئيسي لهذه العاصمة الذي أطلق عليه اسم رسول حمزاتوف بعد أن كان يحمل سابقا اسم قائد الثورة السوفياتية فلاديمير إليتش لينين.
عندما دعيت من قبل كل من المستعربة أولغا فلاسوفا المتخصصة في الآداب المغاربية والمستشرق الروسي ومسؤول العلاقات الخارجية باتحاد كتاب روسيا حاليا أوليغ بابكين للمشاركة في الاحتفال بعيد ميلاد شاعر داغستان الأول من 6 إلى 12 من هذا الشهر شعرت بالفرح والحزن معا، لقد شعرت بالألم لفقده كما غمرتني السعادة لكوني سأستعيد مجددا علاقتي ببيئة وأسرة هذا الشاعر النادر الذي توطدت بيني وبينه علاقة صداقة استمرت لسنوات حتى أدركه الموت.
لقد حضر فعاليات الاحتفال بعيد ميلاد رسول حمزاتوف عدد كبير من الشعراء والأدباء والشخصيات الثقافية والفكرية، أتوا من مصر وفيتنام وأرمينيا ومن الجمهوريات الإسلامية القوقازية المشكلة للاتحاد الروسي فضلا عن ممثلين عن الدولة المركزية الروسية ورئيس اتحاد كتاب داغستان ورئيسي جمهورية داغستان والشيشان.
• الشاعر السياسي
ونحن نجوب شارع حمزاتوف الطويل والعريض والمزين بصفوف من النباتات والزهور والأشجار الباسقة الخضراء أحسسنا جميعا بانتقال الشعب الداغستاني من مرحلة تاريخية بكل معالمها إلى مرحلة جديدة تتميز باستعادة داغستان لهويتها الخاصة بها والتي تلبس الآن جبة شعر شاعرها الفذ، كما فهمنا أن الشاعر قد أخذ مكان السياسي إليتش لينين في دورة التاريخ. وفي قاعة المسرح الجميل نظمت صباحية شعرية شارك فيها كثير من الشعراء وكانت معظم القصائد التي ألقيت تصدح بذكرى وحياة وفضائل الشاعر حمزاتوف.
في اليوم الثاني من الاحتفالات قامت الوفود بزيارة قبر الشاعر حمزاتوف للترحم على روحه، ومن ثم تداول عدد من المسؤولين والمشاركين من الشعراء والأدباء إلقاء الكلمات أمام نصب الشهيد وكان القاسم المشترك فيها أن رسول حمزاتوف شخصية كبيرة في التاريخ الثقافي والروحي والاجتماعي والسياسي لداغستان المعاصرة، وأن نتاجه الشعري بصفة خاصة، والأدبي بصفة عامة نابع من أصالة وفرادة الثقافة الداغستانية ومجالها الحضاري القوقازي الحيوي بأبعادها الشعبية المتفتحة على الإرث الثقافي العربي الإسلامي وتقاليد الآداب الروسية المتعددة القوميات.
• الموهبة والتاريخ
إن الاحتفاء بهذا الشاعر البارز ليس وليد الصدفة أو بسبب المنصب الذي شغله في الماضي كعضو في مجلس السوفييت الأعلى في عهد الدولة السوفياتية التي تفككت في التسعينات من القرن العشرين وبمعنى آخر فإن التقدير الذي يحظى به أدبه لا يدخل في باب الدعاية السياسية وإنما هو إقرار بالموهبة الكبيرة التي يتمتع بها وبشاعريته ذات الرحابة العلمية.
وفي هذا السياق يصدق القول بأن إنتاجه الشعري والنثري يصنف إلى جانب إنتاج أدباء وشعراء عالميين أمثال بابلو نيرودا وبول إلوار وأنا أخماتوفا والمتنبي وغارسيا لوركا وغيرهم. قلت سابقا إن الشاعر رسول حمزاتوف هو إبن الشاعر والإمام الداغستاني المدعو حمزة المولود في المنطقة الإثنية الأفارية المسلمة التي تقطن في قرية “تسادا” الجبلية التي ولد فيها رسول حمزاتوف أيضا.
يُذكر أن الوالد حمزة كان من أوائل الشعراء الداغستانيين الأفاريين الذين كتبوا شعر الأطفال، والمسرح، ومن دواوينه ديوان “مكنسة العادات”، وأذكر أنني رأيت بعيني، حين زرت متحفه ومتحف إبنه الشاعر رسول، كتاباته باللغة العربية في صورة ملاحظات وتعليقات على فلسفة إبن رشد. من هذا المناخ والخلفية انحدر شاعرنا رسول.
أذكر أيضا أن أول لقاء لي جمعني بالشاعر رسول حمزاتوف كان في عام 1992 بقر اتحاد كتاب داغستان ومن ثم ببيته لمدة أسبوع كامل، وبعدئذ تكررت اللقاءات به في موسكو.
بمناسبة لقائنا الأول في ذلك الزمن أجريت حوارا مكتنزا حدثني فيه عن شعره وعن تأثير الثقافة الإسلامية على وجدانه وعلى تشكيل عوالمه الشعرية وعلاقته بالحياة والسياسة كما حدثني طويلا عن والده حمزة الشاعر والمسرحي والفقيه وإمام الشعب الداغستاني، هذا وقال لي عن رحلته الشعرية: ” لقد قرأت الكثير من الشعر الرديء، لذلك أردت أن أكتب الشعر الجميل”.
حين سألته عن المنابع التي نهل منها وعن الأسس التراثية التي ألهمته وأثرت فيه أجابني: “إنه ينبغي أن يكون لكل أديب ثلاثة معلمين: أولا الطبيعة لأن أهم شيء أن الطبيعة ذكية، فهي إن لم تمنح الإنسان ذكاء فإنه سيعيش في قفص الحمق. إن الشاعر يفهم لغة الجبال والأنهار والنجوم، أما المعلم الثاني فهو القرون التي مضت أي التاريخ الوطني، والمعلم الثالث هو قادة الفكر والعباقرة في كل مكان وزمان”.
• خطوط الضمير
أما دور الشاعر فيراه رسول حمزاتوف في قوله: “أعتقد أن الشاعر يجب أن يدافع عن خطوط الضمير والحب، والصدق، والوطن، والعصر، وينبغي بعد ذلك أن يهاجم الشر.
مما يستدعي الأسف على أن الشعر في أغلب الأحوال يدافع ولا يهاجم. ربما أنك تعرف كلمات للكاتب يوليوس فوتشك القائل: “أيها الناس انتبهوا، إن شعاري يقول أيها الناس كونوا لطفاء”.
إن المجتمع الذي يسود فيه اللطف لا يوجد فيه مكان أو ضرورة للاضطهاد. نحن الآن نعيش في زمن يتطلب انتباه الناس. خلال الحرب الكونية استشهد عشرون مليون من الشعب السوفياتي وستون مليونا من الأوروبيين عبر كل أوروبا والآن إذا شنت الحرب الجديدة فإن القوات المتعطشة إلى الحرب لن تنتصر، لا أعتقد أن الشاعر الحقيقي يجب أن يمر بالمحطات أو بالمراحل فهو إمّا شاعر حقيقي أو شاعر مزيف أو أنه يعيش خارج أرض الشعر، إنه يحدث، مثلا، أن أصاب بشيء ما كما يحدث للطبيعة: يحدث زلازل للأرض ويحدث للشاعر زلازل القلب وإذا ما سئل إيطالي، أو فرنسي، أي شعر تذكر؟ فإنه سيجيب: شعر النهضة وشعر المقاومة.
دوستويفسكي الكاتب الكبير قال عن الشاعر الكبير هكذا: “الآن” الحروب والآلام، والانفجارات، والشاعر يغني الحب، والناس لا يحترمونه في هذه الأيام، ولكن بعد مرور ألف سنة فإن الشعب سيشيّد له تمثالا”.
نعم، هكذا كان الحال، فقد شيد لرسول حمزاتوف تمثالان واحد في موسكو والآخر في عاصمة داغستان ليس بعد ألف سنة وإنما بعد أقل من عقدين من وفاته التي كانت في عام 2003 بعد حياة ثرية دامت 80 عاما، وقالت لي إبنته صالحة حين زرتها في منزل والدها: “إن الشعب الأفاري سيشيد له قريبا تمثالا جديدا ثالثا وسينصب قريبا في قرية “تسادا” التي ولد فيها”.
_______
*(ميدل إيست أونلاين)

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *