عادل محمود *
ـ للخواتم نرجسيتها الخاصة ـ
في الجهة اليسرى من الصدر أحسست بحرارة غريبة، وكلما تلمّست تلك الجهة، اكتشفت أن لا شيء يحدث، هنا، سوى ورم صغير في جيب القميص. ثم اكتشفت وجود خاتم ذهبي مصرور في محرمة ورق !
أخرجت الخاتم. وتذكرته :
قبل 30 سنة أهديته إلى أول حب. أتذكر ثمنه الرخيص، تلك الأيام (ما يعادل عشر دولارات). أتذكر تلك اللحظة التي مدّت الفتاة فيها يدها لآسرٍ وافقت عليه، واغرورقت عيناها، لامعة بامتنان المحب !
اليوم، ربما منذ أسبوع، وأنا الذي لا دخان لديه، ولا طعام، ولا أجرة الباص… ظللت أقاوم بيع الخاتم. وأساوم نفسي :
لقد ذهبت هي، منذ تلك الأيام، ونسينا معاً لقمة الآلام. واحتفظنا معاً بأوراقٍ كتبناها وهدايا… وترّهاتٍ تنتمي إلى تلك الأيام !
ما قيمة هذا الشيء الوحيد الباقي؟
ترددّت ُ. ثم أقدمتُ ، ثم، عند “الصائغ” وجدت نفسي أساوم، وأنا أراه يغش في الميزان، ويلقي علي موعظة عن الفارق بين الأربع وعشرين قيراطاً و الـ 18 قيراطاً… ولا أفهم ما الذي أسمعه لأول مرة في حياتي.
في لحظة التردد…
في لحظة المساومة، التي أحتاج فيها أن أكون المنتصر الصغير…
في لحظة التذكر القصوى لتلك العاطفة التي كأنما تباع الآن بعد أن توارت أمس…
في تلك اللحظة دوّت أصوات الحرب في أذني. وصرت مذنباً لأنني أفكر كالصبية بذكرى، فيما الناس تتزاحم في لقمة الحاضر، وأثواب دمه!
قلت للصائغ…(وفي الحقيقة قال له الكاتب) :
احسب لهذا الخاتم، ليس عياره الذهبي، بل حاجتي أنا!
حدّق بي مبتسماً باستغراب، فأضفت إلى استغرابه ما قاله الشاعر:
“…ثم احسب كمية العطر الذي اختزنه من إصبعها…”
بدا على الصائغ الذهول.
تابعت: ” قل لميزانك أن يحسب مثقال تلك الدمعة، ونحن نفترق على تقاطع شارعين، وهي تعيد إلي الخاتم…”
ثم قلت أخيراً… وقد خبأ الصائغ رأسه بين كتفيه ردة فعل على انفجار مجاور، وأنا أمد يدي اليمنى كمتسول:
“اعطني ما تشاء…”
خرجت من الدكان…
لم أعرف كم أعطاني من النقود.
وللغرابة لم أك حزيناً. بل تذكرت الفتاة التي أحببتها كمنقذ لي. فعندما افترقنا، كنت واثقاً أنها، ذات يوم، ستتذكر حبنا في لحظة اسعاف، فتمد يدها في الطريق، لتغرفه جريحاً، وتنقذ روحه.
……
ليس هناك أي شيء نفعله خالٍ من الأسف. حتى في ذروة الحريق… تفكر بدفتر صغير التهمته النيران.
حتى في ذروة الخوف وسط القذائف والرصاص… تفكر بقطة عبرت خط النار.
حتى…
وحتى…
وحتى… يصبح ممكناً استعادة ذلك الخاتم… سأفكر به وهو في إصبعها .