منصف الوهايبي *
( ثقافات )
كنّا في طفولتنا البعيدة جدّا ،نعجبُ من ‘ الخُمْسة’[يد فاطمة]، ثمّ عرفنا أنّها جزء من ثقافتنا المغاربيّة. والعبارة الفرنسيّة:
La main de Fatima ou la main de Fatma
تعني ‘الخُمْسة’ التي تنتسب إلى العربيّة بقدر ما تنتسب إلى العبريّة.ويتنازَعُها اليهود كما يتنازعها المسلمون، بل الهنود أيضا؛ وإنْ بنسبة أقلّ، ف’الخُمسة’ معروفة إلى حدّ ما في مناطق من الهند وباكستان.. بل في مناطق من أوروبا يَصلنا بها ماء المتوسّط، مثل فرنسا واسبانيا. ومن الصعوبة بمكان القول إنّها ذات جذور عربيّة، والأساطير التي نُسجتْ حولها (النبي وابنته فاطمة) قد تكون لاحقة، ولا سند لها من التاريخ. على أنّ الكلمة من حيث الصيغة أقرب إلى العدد’خـَمْسة’، فضلا على أنّها تحيل على أصابع اليد.
وعلى كلّ فلا أثر ل’الخُمسة’ في العربيّة السعوديّة مثلا وهي موطن الإسلام. بل هناك من يعتبرها ضربا من الشرك أو الوثنيّة. وغنيّ عن الذكر أنّ المرأة هي التي تضع′الخُمْسة’ برغم أنْ لا شيء يجعلها وقفا على النساء. ولكن لا غرابة، فهي حِلْية؛ والرجال لا يضعون الحلي، وإن كان هناك اليوم، طائفة من الناس ‘المودرن’ لا يرون مانعا في أن يتحلوا ب’الخُمسة’. على أنّ ما يسترعي الانتباه حقا، أنّ ‘الخُمسة’ ليست صورة مطابقة لليد، كما قد يقع في الظن، فهي ‘يَدٌ’ بإبهاميْن اثنين. ومردُّ ذلك ـ كما يفسّره البعض، وهم على حقّ ـ إلَى أنّ الأمر يتعلّق بيدين متراكبتيْن ظاهرًا لظاهرٍ/ أو قفًا لقفًا، أو بأثر يد واحدة،وُضعتْ على وجهها، ثمّ على قفاها. أمّا رمزها فهو محفوف بغموض غير يسير، فقد يكون دلالة على رجاء أو أملٍ ما.. والأمر قد يختلف من شخص إلى آخر.
وهناك أيضا ‘عيْن’ في مستوى الراحة[راحة اليد] قد تظهر وقد لا تظهر. وهي عند العرب المسلمين واليهود، استعاذة من’العين اللامّة’ أو ‘العين الشرّيرة’.
***
هذا باختصار بعض ما تثيره ‘الخُمسة’ [ يد فاطمة]. ولكنّنا نعرف أيضا في تونس ‘اليد الحمراء’ التي كانت تلاحق الوطنيّين التونسيّين زمن الاستعمار، ومنهم أبي الذي كان ينام فوق سطح معصرة الزيتون التي يملكها والده،حتى لا يباغتوه؛ وقد كادوا مرّة يظفرون به، لولا نباح الكلاب. ومن شعارات ‘اليد الحمراء’ التي اغتالت حشاد وشاكر وغيرهما: ‘ـ انضمّوا إلى اليد الحمراء ـ ضدّ فرحات حشاد الأمريكي ـ ضدّ البلاط الملكي الفاسد ـ انضمّوا إلى اليد الحمراء التي ستجعل من هذه البلاد أرضا فرنسيّة تقوم على الحرية التقليديّة الموروثة عن مبادئ 1789 الحرية والمساواة والإخاء ـ أيها الرجال الأحرار أيها الإخوان التونسيّون من المسلمين والمسيحيّين واليهود، في سبيل استقلالنا المهدّد والمحافظة على مدنيّتنا القديمة التي نشأت على ضفاف البحر المتوسّط تلك المدنيّة العربيّة واللاتينيّة. انضمّوا إلى اليد الحمراء…’
***
سؤالي: أين تونس اليوم من كلّ هذا؟ ما هذه الأزمنة الشبيهة بالأواني المستطرقة في تونس ما بعد 17/14؟ حيث تحضر’الخُمسة’[يد فاطمة] وتحضر في باردو، جنبا إلى جنب: تونس حشاد وبورقيبة.. فيما تختفي في’القصبة’ تونس التي لا نعرفها أعني ‘تونس الإخوان’.. أعني تونس حسن البنّا وسيّد قطب.. والأصابع الأربع السوداء/ الصفراء التي ارتفعت في المجلس التأسيسي.. هذا الشعار المتهافت الذي يرمز به واضعهُ إلى اعتصام رابعة العدويّة الشاعرة الصوفيّة العذبة.. ولقد نسيَ هؤلاء أنّ يداً بأربع أصابع، لا يمكن إلاّ أن تكون شارةَ الجهل.. أنّ يدا ينقصها إصبعها الإبهام.. هي بكلّ بساطة، يدٌ لا تستطيع أن تكتب.. لا تستطيع أن تمسك بالقلم.
وقد ذهب أسلافنا إلى أنّ القلم هو أوّل ما خلق اللّه، وأوّل ما بدأ بذكره في الكتاب، وأنّه وصف نفسه بأنّه علّم بالقلم، وأبان أنّ صناعته أفضل الصّنائع. ومن هذه الآيات في القلم:
.ـ ‘اقرأ وربّك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الانسان ما لم يعلم’ 96/3 العلق
ـ ‘ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربّك بمجنون’ 68/1 القلم ـ ‘وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم’ 3/44 آل عمران
وكان للكتّاب والشّعراء مجال واسع في وصف هذه الأداة ( القلم) شعرا ونثرا. فقال فيه ابن المقـفـّع : ‘القلم من نعم اللـّه الجليلة ومواهبه الجزيلة… فهو الكيل السّابق والسـّكـّيت النـّاطق، به اتّسعت الأفهام، وضبطت العلوم والأحكام، ولولا الأقلام لضاق الكلام،وقلـّت الحكّام، ونسيت الأحكام’. وقال في موقع آخر: ‘القلم بريد القلب، يخبر بالخبر، وينظر بلا نظر’. وقال عبد الحميد الكاتب:’القلم شجرة ثمرها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة’. وأورد حمزة الأصفهاني نصّا لمسلم بن الوليد عدّه من ‘الوصف الجامع لاستعمال القلم’. وممّا جاء فيه أنّ القلم ‘يظهر ما سدّاه العقل ، وألحمه اللّسان، وبلّته اللّهوات، ولفظته الشّفاه، ووعته الأسماع، وقبلته القلوب وينسب إلى أحمد بن يوسف الكاتب الوزير قوله : ‘القلم لسان البصر، يناجيه بما استتر عن الأسماع′. وقال محمّد بن عبد الملك الزّيّات:’بالقلم تزفّ بنات العقول إلى خدور الكتب’. فهذه الشّذرات وغيرها ممّا جاء شعرا وهو كثير، تبين عن الكتابة بوجهيها الفنّي الجمالي الرّاجع إلى علم الخطّّّ، واللّغوي اللّساني الرّاجع إلى علم الإملاء، أو ما يسمّى قديما بالهجاء، وهو يعنى بالعلاقة بين الرّمز المكتوب والصّوت المنطوق، ومدى مطابقة هذا لذاك أو قصور الكتابة عن تمثيل المنطوق تمثيلا كاملا وكثيرا ما يلتبس الوجهان في هذه الأقوال.
ولعلّ من أظهر ما في هذه الشّواهد وبخاصّة ما اتّصل منها بأحكام الكتابة من برْي واستمداد وتسوية وشكل ونقط، أنّ تصوّر الكتابة عند القدامى، معقود على آصرة متينة بين الزّمانيّ والمكانيّ أو بين الصّورة المنطوقة والصّورة المكتوبة،حتّى أنّهم استعاروا للخط ّ مصطلحات لغويّة نحويّة مثل اللـّحن والضّرورة في باب ما أسموه ‘لحن الخط والتّسوية وما يجوز وما لا يجوز في ذلك وما يستحسن في الضرورات وما يستقبح’.
وجعلوا إيقاع الخط من إيقاع اليد الخاطّة، وحركته من حركتها، ووصلوا ما بينها وبين الفكر حيث اليد الممسكة بالقلم، هي اليد- الفكر
إذا امتطى الخمس اللـّطاف وأفرغتْ عليه شعاب الفكر وهي حوافــلُ
وإذا صرفنا النّظرـ عن صورة المسيل الحافل التي يتّخذها الفكر، ولعلّ مصدرها الماء نفسه، فهو لا يحمل في ذاته لونا ولا شكلا، ولذلك تنعكس فيه صور شتـّى الكائنات؛ إذ لو كان له لون أو شكل لما أمكن أن يعكس أيّ صورة ـ فإنّ حركة اليد حركة الفكر ومجلى الكتابة. وعليه لا غرابة أن يدقـّق الشاعر وصف الأصابع الممسكة بالقلم، على نحو ما نجد في المصنـّفات المخصوصة بالكتابة فـ’صفة مسكه[القلم] بالإبهام والوسطى غير مقبوضة، لأنّ ببسط الأصابع يتمكّن الكاتب من إدارة القلم، ولا يتّكئ على القلم الاتّكاء الشّديد المضعف له، ولا يمسك الإمساك الضّعيف فيضعف اقتداره في الخطّ…’ أو قولهم : ‘إذا أراد [الكاتب] يأخذ القلم فيتّكئ على الخنصر، ويعتمد بسائر أصابعه على القلم، ويعتمد بالوسطى على البنصر، ويرفع السّبّابة على القلم، ويعمل بالإبهام في دوره وتحريكه.’
ولولا خشية أن نرمى بالتمحـّل على هذه النـّصوص، لحملناها على معنى الكتابة كما يراها ‘ رولان بارت’ فهو يذهب إلى أنّ حقيقة الكتابة ‘في اليد التي تضغط وتسطـّر وتنقاد، أي في الجسد الذي ينبض(الذي يستمتع)’. ويضيف في ذات الموضع : ‘إذا كنّا نرفض’الايديوغرام’[رسم الفكرة]،فلأنّنا نسعى دون انقطاع في غربنا، أن نُحلّ
سلطة الكلمة، محلّ سلطة الحركةô إنّ الحركة ôموجودة في عمق الإيديوغرام مثل نوع من الأثر التـّصوير، مبخّر’. ويبيّن أنّ البشر زاولوا طويلا الكتابة اليدويّة، ما عدا الطّباعة. ولذلك فـ’إنّ مسيرة اليد، وليس إدراك أثرها المرئيّ، كان الفعل الأساس الذي تحدّ بواسطته، الآداب وتتدارس، وترتّب…’
على أنّ حركة اليد ليست حركة الفكر ومجلى الكتابة فحسب؛ فاليد محفوفة بجملة من الرّموز والمعاني مثل القوّة والقدرة والسـّلطة.
أماّ إذا حصرنا هذه المعاني في اليد الخاطّة أو الكاتبة، فلا نظنّ أنـّنا نجانب الصّواب ما تأوّلناها على أنّها اليد ‘الأسطوريّة’ صانعة الأداة، ورمز القوّة الخالقة قوّة الكلمة أو اليد- الفكر المتحرّرة من سلطان المادّة أي ‘اليد الإلهيّة’ أو’يد اللـّه’ من حيث هي صورة استعاريّة تجسّد’اللاّمرئي’، ولكنّها تخرق المقدّس في ذات الآن. وقد نكون في الصّميم من هذه الكتابة، ما أخذنا بالاعتبار كلّ هذه العناصر(القلم واليد والعقل) على أنّها عناصر متواشجة تتظافر في حدّ الكتابة من حيث هي خلق بالعقل وهو صفة من صفات القلم ، والنـّظر وهو سواء حملناه على البصر أو البصيرة تبصّر وتأمّل وتدبّر أي صفة من صفات العقـل، كما يدلّ على ذلك المتواتر اللـّغوي ‘عين الصّواب’ أو ‘عين العقل’ أو المأثور من الأقوال مثل ‘القلم لسان البصر’أو ‘بِنَوء الأقلام يصوب غيْث الحكمة’. إنّ اليد ذات معان مجازيّة متـشعّبة مثل الجاه والقدرة والسّلطان وأوّل الشيء والأمر النّافذ والقهر والغلبة والحفظ والوقاية وإذا أضفنا إلى ذلك عنصر الماء ـ وصلته في المتخيّل الدّيني بعمليّة الخلق أجلى من أن نتبسّط فيها ـ ساغ لنا أن نتأوّل كلمة’قلم’ دون تحميلها فوق ما تحتمل- على أنّها رمز يجسّم الكلمة المقدّسة أو الكلمة من حيث هي جوهر خلاّق. والقلم ‘القرآنيّ’ نفسه محفوف بأكثر من أسطورة تقرنه بمعان شتّى مثل الخطّ أو الكتابة والعقل والقدرôوهو الأساس في نظريّة التّوقيف الإلهيّ في نشأة الخطّ حيث يجري القلم بقضاء من اللّه وقدر، كما يذهب إلى ذلك محي الدين بن عربي. أمّا هذه ‘اليد’ التي يرفعها الإخوان، فلاندري كيف ستكتب، ولا بأيّ قلم ستمسك.