*شوقي بزيع
I
في المحطَّةِ،
آن يهمُّ قطارانِ بالسيرِ
كلٌّ إلى جهةِ،
حيث ترعى النساءُ الوحيداتُ خلف النوافذِ
صوت انزلاق الحياةِ
التي تتسرَّب في وَهَج القيظِ
مثل صبا آفلِ،
والرجالُ الوحيدونَ
لا يفتأون يدارون وحشتهمْ
بالتفرُّس في ما يُحيق بأبصــــــارهمْ
من فلول المكانْ
تلتقي فجأةً نظرتا رجلِ وامرأه
تلتقي فجأةً نظرتانِ اثنتانِ
لشخصين جدِّ غريبينِ،
تندلعانِ كنار مجوسيَّةِ في هشيم حناياهما
المتلمِّظ للحبِّ،
والمتلمٍّس مجرى صهيل اندفاعاتهِ
في خلاياهما
مثلما فرسٌ وحصانْ
يحدِّق كلٌّ إلى الآخر المُشْتَهَى
برجاءِ غريقين ضاقت بيأسيهما
أذرُعُ الموج،
أو بتعلُّق طفلينِ عند النعاسِ
بنبعيْ حنانْ
بغتةً يشعرانِ كأنهما عاشقانْ
كأنهما غابتان من النأيٍ
نادتهما دونما موعدٍ
حُرْقَة الافتتانْ
ولا يخطئان الطريق الى ملتقى النظرتينِ
اللتين تفيضانٍ وَجْداً،
كأنَّ الجسور التي انعقدتْ
بين قلبيهما
مسَّها شغفٌ خاطفُ الومضِ
للانصهار ببعضيهما،
للتشبُّث في ما تصيِّره القشعريرةُ
وجهاً لروح الجمال المقطَّرِ في صَعْقَةِ،
أو كأنَّ دماء التشهِّي
التي انبجستْ منذ بدء الخليقةِ
بين الرجالِ وبين النساءِ
قد اختُزِلَتْ في ثوانْ
وإذ تتباعدُ مسرعةً عجلاتُ القطارينٍ
ينأى الغريبانِ في تيه نفسيهما،
تاركينِ وراءهما
نظرتينِ اثنتينِ
تنوصانِ
شيئاً
فشيئاً
كمعزوفةٍ حاكها بخيوط الصبابةِ
نَوْلُ العروق الخفيُّ،
وظلَّت تكرِّر أنغامَها الغُفْلَ
خلف حقول الزمانْ
II
في أولى ساعات الفجر الغبشيَّةِ،
أثناء الرحلةِ من بيروتَ
إلى الدار البيضاء،
كانت طائرة الجمبو تتهادى فوقَ
مياه المتوسِّطِ،
قاطعةً أحشاءَ سماواتٍ داكنةِ الألوانِ
وأوصالَ غيومٍ ما تنفكُّ
تبدِّل صورتها
وتهيم على غير هدىً
في ليلِ الأخيلةِ الرُّحَلْ
ما كان لعينيَّ،
وقد رحت أحدِّقُ من خلفِ زجاجِ
النافذة البلَّوريِّ
إلى الأفق المترامي،
أن تَرَيا البتَّة
غير بساط الأمواج المعتمِ،
حين اندلعتْ من جوف الظلماتِ
مصابيحُ قرى جزر اليونان،
معفَّرَةَ الأهداب بأضغاث بيوتٍ
غائصةٍ في الفلك المسدلْ
لكنْ، ولأسبابٍ لا تفسير لها،
أمعنتُ التحديق مليًّا،
قبل غروب المشهد عن مرمى العينِ،
إلى الأسفلْ
فتبدَّى لي،
مختلطاً بنثيث عوالمَ راعشةٍ،
مصباحٌ أعزلْ
مصباحٌ لم يتسنَّ لهُ أن يُسْفِرَ
عما استُغْلِقَ من وحشتِه،
إذ لا خيطَ هنا مرئيٌّ بوضوحٍ
كي أكشف عن ماضي الأشياءِ
المُنْبَتِّ من الذكرى،
أو أسبر غور المستقبلْ
لم تملك طائرةُ الجمبو
أن تتوقف بي،
لم تملك أن تتمهَّلْ
كي أرعى عن كثبٍ غربة أهليةِ
المضطجعين هناكَ،
وكي أرفو بنياط القلبِ
هُياماً لامرأةٍ أنهكها الفقدانُ،
وكي أتعهد بالحَسَرات بتاريخَ
الرجل الأرملْ
لا شيء سيبقى
من لحظات الفجرِ الغبشيَّةِ تلك
سوى نظراتٍ تتفرَّس يائسةً
في ضوء المصباح الهاربِ،
نظرات لن تتكرَّر ثانيةً
بل ستظل مُعلَّقةً أبداً
في طرف الحيواتِ المُهْمَلْ
III
ظُهْرَ يومٍ مضى،
لأقلْ إنه الأربعاءُ
أو السبتُ،
من سنةٍ سوف يعوِزُني
فَصْلُ تاريخها المتقادمِ
عمَّا عداه
كنت أمشي بلا هدفٍ واضحٍ
بمحاذاة خطِّ المباني القديمةِ
في (رأس بيروت)،
حين توقَّفْتُ بالقرب من حفرةٍ
كاد يفرغُ من ردمها
المولجون بإصلاح ما تحتها من مجاري المياه
لم تكن وقفتي تلكَ
إلا بداعي الفضولِ فقط،
أو بداعي العثور على فارقٍ
بين سطح الوجودِ وباطنهِ،
حيث تغدو الحقيقةُ محواً
ويبدو الجمالُ نظيراً لما لا نراهْ
ولذا لم أُعِرْ للعروق التي تتفصَّدُ
في ذلك القيظِ أيَّ اهتمامٍ،
ولم أكترث للغبار الكثيفِ
الذي يتكدَّس فوق شقاء الجباهْ
ولكنني رحت أُمعن في حجرٍ راقدٍ
تحت عزلته السرمديَّةِ،
في حجرٍ شدَّني نحوه صدفةً،
لا افتتاناً بنُدْرَةِ تكوينهِ
أو لشيءٍ يميِّزه عن سواهْ
لم يكن في خشونة ملْمسه الصَّلْبِ
ما يوجب الانتباهْ
لم يكن ثَمَّ من دافعٍ كي أردِّد،
فيما أنا شارد الذهنِ،
قول تميم بن مقبلَ «ليت الفتى حجرٌ»،
فلماذا إذاً كدت أصرخ
بالعاملين على طمس صورته وهي تغربُ
أنْ: أوقِفوا الرَّدْمَ
قبل وصول الظلام إلى منتهاهْ؟
ألأني تَخَيَّلْتُهُ حتْف كلِّ الكنوز الخبيئة
في غيهب الذكريات المماثلِ،
في ذَهَبِ الكلماتِ
الموارى عن الروح في سهوها،
أم لأني رأيت بهِ
صنو بَحْثِ النفوس التي أقفرتْ
عن رفاتِ ممالكَ ضائعةٍ
في سفوح الحياه؟
ربما لم أشأ أن يؤول إلى عدمٍ فاغرٍ
ذلك الحجرُ المتوغِّلُ
في صمته المتمادي
لذا رحتُ من دون لأْيٍ
أشيِّع بالنظرات الأخيرةِ
ذاك الوجود الأصمَّ
الذي لن يتاح لعينيَّ
فيما تبقَّى من العمر أن تبصراهْ
(Iv)
نظراتُ يهوذا
التي أصبحتْ، منذ أَوْفى بِسُمِّ
خيانتهِ للمسيح نذورَ القيامةِ،
شمَّاعة للخطايا
ومَأْثَرَةَ اللائبين على جر التينِ
كي يفتدوا يائسينَ
نزوع الألوهةِ للاكتمالْ
نظراتُ امرئ القيسِ
تنأى على طُرُقِ الروم مثلومة بالقروحِ
لتنسج من دون جدوى
تصاويرَ مملكةٍ لا تُنالْ
نظراتُ جميلٍ،
وقد خالطتْ عقله لدغةٌ
من تَشَهِّي بثينةَ
منسوخةٌ عن بهاء التجلِّي،
إلى ما يصيِّره الفَقْدُ
وخزاً عميقَ الندوبِ
لجرح الأنوثةِ في قلبهِ
والْتماساً حروناً
لما سوف يجعلُهُ عاجزاً أبد الدهر
عن فكِّ لغز الجمالْ
نظراتُ الحسين المريرةُ
يرنو وحيداً،
ولا رُسُلٌ يسهرون على عطش الأرض بَعْدُ،
إلى فلواتٍ مُخَوَّلَةٍ
بالتبُّرؤ عن عقمها المتوارثِ،
فيما الغيومُ أشاحتْ بحمْرتها
عن وجيب جراحاتهِ،
والسماء التي أَرَّقَتْها استغاثاتُهُ
دفنتْ رأسها في الرمالْ
نظراتُ أبي الطيب المتنبي،
وقد خذلتْه عناقيدُ مصرٍ،
إلى حلبٍ
من بنات الخيالْ
نظراتُ الشريف الرضيِّ
التي أسلمتْ يأسها لنداء الطلولِ الخفيَّةِ
كيما يؤازرها شغفٌ للتلفُّتِ بالقلبِ
لن ينتهي
نحو ماء الحياة الزُّلالْ…..
تِلْكُمُ النظراتُ
التي لم تبارح مصائرَ سكَّانها
كيف يمكننا رَتْقَها بعدُ؟
في أيِّ أرضٍ سنحفرُ
كيما نحرِّرها من عُتُوِّ غياباتها اللانهائيِّ؟
هل ثمَّ من سُبُلٍ للوقوفِ
على حسرة النظرات الأخيرة للخَلْقِ،
أم أنها لم تَعُدْ غير أنْصابنا الزمنيةِ
مرفوعةً مثل أيقونةٍ من أسىً
فوق عقم السؤالْ؟
________
* شاعر من لبنان
(السفير) الثقافي