صُــــوَر


*رباب كساب

كوب الشاي إلى جوارها، ساعة وأكثر ترتشف منه على مهل، ينبِّهونها لبرودته، لا تستمع، ترتشف ببطء وتحملق في الفراغ.

الصور تتدافع أمامها، تهشّها كما لو كانت بعض ذباب، صور لا ترتبط ببعضها لكنها تصرّ على أن تمرّ بذاكرتها، ويستمرّ العرض.
محل الملابس الفخمة الذي تحوَّل إلى محلّ حلويات سورية قبل أن تتسنى لها فرصة شراء فستان واحد، كم أوجعها الفَلَس الدائم ولعابها يسيل على الفساتين الرائعة والتي تجد دائماً إلى جوارها رقماً له أصفار ثلاثة. 
نظراتهم الحمقاء لكوب الشاي لا تلفت عقلها ليبعد عن صُوَرِه، تلمسه بيد أشد برودة منه وتعود لتنتظر. 
سيارة الشرطة المحترقة بالقرب من المتحف المصري والنيران تأكلها في بطء يتلذذ به المتفرجون بمن فيهم هي، لذة تفوق الخوف من انفجار السيارة في أية لحظة.
صدفة عابرة وجلسة طعام كانت الأجمل (كان ينقصها فحل بصل) هكذا اعتقدت من دون أن تفكر أنها لم تأكل، وحكايات عن بنات يصرّ عقلها دوماً على أنهن غير موجودات في الكون، ينقطع خيط الحديث بأصوات ضرب النار التي فاجأتهم بينما أطباق الطعام لم تهجر طاولتهم. (الشعب يريد إسقاط النظام) شعار يردِّده الشباب المحترق بنار الدم وهم يجوبون المكان، وهي تشاهد هذه المرة غير مشاركة.
اتصال هاتفي من أمها التي تجلس أمام التليفزيون وتشاهد كل شيء تطلب منها العودة، تطلب منها الرجوع إلى الموت بلهفة!
شربوا شاياً مرة أخرى، سألوها أن يُعِّدوا لها كوباً آخر بدلاً من الكوب الذي برد، تستنكر قولهم قائلة : لسّة ما بَرَدش.
محلّ البنّ الذي يفتح دائماً أبوابه وقتما لا تريده. رائحة البن التي تتسلل إليها فتنتعش حواسها جميعها وتنتصب خلاياها العصبية، وتصبح مستقبلاتها الحسية في أوجها. لكن لا شيء لتستقبله.
ترتشف رشفة جديدة، لا يبدو معها اختلاف، لازال كوب الشاي على حاله. لا تلمح ابتساماتهم. إحداهن تضحك وهي تقول: اللي واخد عقلك يتهنّى به. 
القصيدة التي تركت ورقتها على الكوميدينو ذات صباح، قتل صاحبها كل الحروف وصنع من لا كلمة قصيدة، لم تحسّ بها، المجد للسراب، هكذا قال، تركتها في غضب وهي تردد: المجد للدم الذي تحنَّت به كفوفنا يا هذا.
سائق التاكسي المحاسب الذي يريد أن يثبت لنفسه قبل أي أحد أن الليبرالية ليست حراماً، ويسألها في تعجب: هل هناك مصري يمكنه تأجير آثارنا؟ أن يبيع تاريخنا؟!
تضغط على الكوب بكلتا يديها لتدفئهما، تقرِّبه من فمها.. تأخذ رشفة أخرى. عيناها لازالتا تتعلقان بالفراغ، تلمح عصفوراً على الشجرة التي تقترب أفرعها من الشباك، هو الآخر ينظر إلى كوب الشاي، مَدَّت له يدها به وهي تبتسم ثم أعادته إلى فمها لتشرب مرة أخرى. 
خرائط دورة الأرز، زميلتها التي بين حين وآخر تتذكر أنها مهندسة الدورة الزراعية وليست إدارية فتثور ثورات متقطعة حين تجد أنها تقوم بكل أعمال القسم الكتابية.
تلمح ابتسامة سخرية في عيني زميلتها مهندسة الدورة. لا تفهم سرّ الابتسامة! تتلمَّس كوب الشاي دون أن ترتشف منه شيئاً، تشيح بوجهها عنها لتتعلق نظرتها بالكوب الساكن حضن كفّيها.
أخوها الذي اشتاقت ابنتيه فتفتح باب الشقة لتجده يجلس في جلباب أبيها الميت دونهما. 
دعاء ابنة صديقتها لها بأن ترزق بأولاد تأتي لهم بالكيك والشيبسي، دعوة صادقة لم تتمنَّها ثمنها كيس شيبسي، وقطعة كيك جاهزة تقابلها روح شغلتها الوحدة عن طلب الأمومة.
هلع صديقتها حين استمعت لصوتها المكسور، ظنته خيبة قلبية جديدة، لا تعرف أنها لم تعد تملك قلباً. لقد أعارته للمجهول وجلست تنتظر.
بادلت كوب الشاي بابتسامة.. إنه أجمل كثيراً من ذلك الذي تشربه في المقهى، لكن هناك لكل شيء مذاق مختلف، ترشف رشفة جديدة وبفمها مذاق شاي المقهى.
المقهى وجلسات النميمة التي لا تنقطع. حكايات قديمة تستمع إليها تحملها سنوات عمرهم الكثيرة. كل الحكايات تزخر بالأسماء. لا تملك مثلهم حكايات، لا تملك أسماء. وما تسمعه منهم يسقط منها أوَّلاً بأوَّل، لكنها تستمع بحب! 
لازال العصفور على الفرع القريب من الشبّاك متعلِّقاً به وبها. ثمة حديث خفي بينه وبينها، خشيت أن يعرف أنها لا تحب زقزقته فيرحل، حديثه ودي خالص، لا ينبئها بجديد، لكنه يطلب عطفاً، تمدّ له يدها بكوب الشاي مرة أخرى، ثم تعود وتسحب يدها نحو فمها لتأخذ منه رشفة صغيرة، إحساس خفي بأنه كان سيمدّ منقاره إلى الكوب لكنها خذلته.
بائعة الملابس حلوة اللسان، نقابها يكشف عن عينين شقيّتين، أسلوب حديثها دفعها لتسألها عن تعليمها فقالت بثقة : ليسانس لغة عربية جامعة الأزهر. ابتلعت غصّتها وحسرتها على السيدة الصغيرة البائعة المتجولة، التفتت لشراء بعض الملابس الداخلية، لا أحد يفسِّر- حتى هي- المتعة التي تشعر بها حين تشتري (اللانجري) هكذا يسمّونه حتى لا يسمون القطع بأسمائها، تمتلك الكثير وحريصة على الشراء دائماً وخاصة تلك القطع السفلية المحببة: كل الألوان، كل الأشكال، وآه من الرسوم، لم تجرِّب بعد تلك التي تضيء، ولا هذه التي تصفِّق لها فتسقط، لا تحب التقليعات، فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار!
تتجلّى ابتسامتها والسيدة تمدّ لها يدها بنوع جديد في الخفاء حتى لا تلتقط عيون الرجال في المكتب ما بيدها. نعومته أربكتها، تخيَّلته عليها، ستحتاج لشراء سوتيان جديد يليق به، ساومتها على شرائه، حين عادت للمنزل لم تفسِّر سرّ الفرحة بأنها لم تشترِ منها، وإن كان الشكل الجديد راودها كثيراً ! 
ضحكاتهم أخرجتها من قلب معرض الصور الذي لا ينتهي، ذاكرتها تلقي بكل ما لديها دفعة واحدة، نظرت إليهم في اشمئزاز وهي تمسك بكوب الشاي لترتشف رشفة جديدة، وتتذكر أنها تفتقد سجائرها، فتعود بحزن لصورها.
الوقفة الاحتجاجية. الميدان الزاخر بنساء يصررن على أنه لا سبيل لمحوهن من خريطة الوطن، لم تنس أنها لم تسر تحت المطر في يد حبيب كان، لكنها تظاهرت تحت الأمطار الغزيرة هاتفة بسقوط حكم المرشد والرئيس التابع. جفت ملابسها عليها وهي لازالت بالشارع تقطع الطريق بين المقهى والميدان كل ساعة. وفي الليل وهي تخلع حذاءها الرياضي وجدت قدميها المبللتين بعد نزع الجوربين يكاد جلدهما المكرمش يسقط عنهما من طول مدة بقائهما في الماء، سقطت فريسة للمرض بعد أيام، لكنها كانت سعيدة ! 
رشفة جديدة من كوب الشاي، استفاقت وتِفْل الشاي يملأ فمها، وضعته وهي تبتلع المرارة، وتمسح بقاياه التي تناثرت على فمها، ذهبت المرارة ولم يتوقف شريط الصور.
_________
* قاصة وروائية من مصر(مجلة الدوحة)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *