في السلوك المدني: القيم…المجتمع


د.حكمت النوايسة *

( ثقافات )


    يمكن القول إن السلوك بوجه عام هو كل تعبير يقوم به الفرد أو المجتمع، سواء أكان بالحركة أم بالقول أم بالإيماء…أما السلوك المدني، فهو ذلك التعبير تطوعيا لغاية اجتماعية وطنية قومية إنسانية أو واحدة أو أكثر من هذه الغايات
وإذا اتفقنا على هذا التحديد، وهو تحديد مكثّف من الأدبيات التي تناولت هذا الموضوع، فإننا ملزمون أن نضعه في إطار، ونجعل له حدودا، وحدوده وإطاره العام هو المجتمع المدني، والمجتمع المدني، بعيدا عن البحث في تاريخ المصطلح، هو الهيئات والجمعيات والمؤسسات والنقابات والتجمعات التي تعمل تطوّعيا بهدف خدمة الجماعة أو المجموعة أو المجتمع، خدمة عامّة تعبئ الفراغ الحاصل في الخدمات ولم تقم به الجهة الرسمية، وتعبر، الجهة التطوّعية به عن المجتمع، وقد تواجه به الدولة، وقد تكون به رديفا أو مساعدا لهذه الدولة في خدمة المجتمع، وفي الحالات كلها يكون المجتمع المدني هو مقابل للمجتمع الرّسمي، ومن هنا يسمّيه بعض الباحثين، وكثير من المنابر المجتمع الأهلي.
ولعلّنا نلخّص أهم خصيصتين للمجتمع المدني، والسلوك المدني هما: التطوّعيّة والاستقلالية، وتان الخصيصتان تنبثق عنهما قيم السلوك المدني التي يمكن محورتها وفق ما يأتي:
• التسامح
• الكرامة الإنسانية
• المواطنة
وأما التسامح، فهو الموجّه الأساس للسلوك المدني، ويعبّر عنه بالقبول: قبول الآخر المبني على قبول الذات، أي فهم الذات فهما يؤطرها في المجتمع، ومبدأ السلم الاجتماعي بوصفه المبدأ الأهمّ الذي يتيح المجال للرقي الإنساني، والتقدم الحضاري، والتنمية الهادئة الطموحة، وهنا نستشف ضرورة شمول قيمة التسامح على مبدأ الحرية: حرية الاعتقاد، وحرية التعبير، وحريّة التفكير، وحريّة المقصد في الإطار الذي لا يمسّ حريات الآخرين.
وأما الكرامة الإنسانية، فإنما تشير إلى ضمان الحريّة وفق مبدأ الحقوق الأساسية، الحق في الحياة والتعليم والاعتقاد والحق في المساواة بين أفراد المجتمع في هذه الحقوق، وعدم التمييز، أو التحيّز، وهذا ديدن المجتمع المدني، وهذا مضماره الذي يخوض فيه حربة، أو يسلك فيه نشاطه من أجل الاعتراف أولا، والتحقق ثانيا، بوصف تحقق ذلك الغاية القصوى.
وأما المواطنة، فإنها ترتكز على القيمتين السابقتين، حيث تشير إلى السلوك التلقائي المبني على تحقق قيم المساواة والكرامة الإنسانية، مما يعزّز الشعور بالطمأنينة لدى الفرد والجماعة، وتجنّب السلوك العدواني الذي يترتّب على التهميش، أو الإحساس بالتهميش، أو الإحساس بعدم جدوى المنظومة الاجتماعية ومواضعاتها في ضمان حقوق الجماعة أو الفرد.
محاذير
أولا: عندما نتحدّث عن سلوك مدني في هذا الزمان، فإننا لا بدّ أن نشير إلى أن الاصطلاح قد تعولم، وصار له فضاؤه الدلالي، العالمي، مما يربك الباحث أو المتحدّث فيه، نتيجة خلط أو لبس كبير ترتّب على ارتباط الكثير من الجمعيات والمؤسسات التطوّعية بمؤسسات عابرة للحدود، وتلقي الكثير من الهيئات دعما خارجيا، أو تمويلا أجنبيا، يثير الريبة، أو القلق، انطلاقا من القلق المثار حولة المصادر الجغرافية أو السياسية للتمويل، وعدم الثقة بالغايات التي يمكن أن يقدّم الدعم أو التمويل من أجل تحقيقها، وهذا الخلط سيؤدي بالضرورة إلى ضرب منظومة المجتمع المدني من زاويتين: الأولى رهن المفهوم أو ربطه بالقوى العاملة على تحطيمه، والثانية سلب المجتمع الإنساني إنجازا مهمّا توصّل إليه، وتواضعت عليه المجتمعات بعد تجربة، وعراك مستمرّين توصلت من خلالها إلى هذه المواضعات المرتبطة بالتنمية والسلم الأهليين.
ثانيا: عندما نتحدّث عن السلوك المدني أيضا، فإننا لا نتحدّث عن سلوك راق مقابل سلوك همجي، ولا نتحدث عن سلوك حضاري أو متمدّن مقابل سلوك متوحش أو بدائي، وإنما نصف، ونبحث في وصف، علّنا نصل إلى ما يمكن الوثوق به من مسوحات وصفيّة تنير الطريق أمام القبول، والعدل، والمواطنة، أي أن السلوكات الظاهرة للإنسان مرهونة بما يتواطأ عليه المجتمع، والمجتمع لا يتواطأ إلا على ما يشعر أنه بحاجة إليه، وليس ثمّة سلوكات يمكن تقديمها كدروس جماعية لأنها في هذه الحالة تخرج من إطار الطوعية، والانطلاق الذاتي.
ثالثا: عندما نتحدّث عن سلوك مؤمن بقيم، فإننا ملزمون بتوضيح منابع هذه القيم، وإن كانت الإنسانية المطلقة هي المنبع الأساس، لكنّنا، في التفاصيل، ملزمون بالإقرار بمبدأ الحرية في تحديد المنبع، وهذه الحريّة إذا استندت إلى مبدأ القبول، سوف تجعلنا نحترم إنسانية الإنسان، وحقّه في الاختلاف، وهنا نمثّل بحريّة المرأة في السفور وفي الحجاب، إذ يجب توخي عدم الانجرار لمعياريّة مقيّدة في التفاصيل، لأننا إذا ذهبنا وفق هذه المعيارية أو تلك، فإننا نصادر حق الجماعة في الاعتقاد، واختيار منظومة القيم التي تحفظ لها توازنها في المجتمع المنشود.
وإذا كنا في المفتتح نتحدّث عن التطوّعية المرتبطة بالحريّة، فإننا ملزمون أيضا بالبحث في هذين الإطارين ومتطلّباتهما، فالعمل التطوّعي بحاجة إلى الحريّة، وإن توفّرت فإنه سيسعى إلى تحسين ظروف الجماعة، أو المجموعة أو المجتمع/ والمجتمع الإنساني بعامّة، أما إن غابت الحرية، فإن التطوّع سيتجه إلى البحث عنها، والبحث عنها قد يعبّر عن نفسه بحركات تنحو منحى سياسيا، وقد تنحو مناحي أخرى تغيب من خلالها عن السطح، وتختبئ تحت مسمّيات مختلفة، لكنّها ستكون معطّلة لأي تواضع اجتماعي ناجح.
وعندما نتحدّث عن الحريّة، فإن في حسباننا الحريّة التي تضمنها القوانين والأعراف المعمول بها في أي مجتمع، أي أننا أمام جهتين يمكن أن تصادرا الحرية أو تمنعها، هي الجهة الرسمية التي تمثلها القوانين، والجهة المجتمعية التي تمثلها الأعراف، وفي الحالتين قد نجد فضاء من الحريّة يسمح بالعمل التطوّعي، لو أخذنا الأمور بهذه الصورة المطلقة، الخالية من التفاصيل، لكننا لا نفعل ذلك ونحن نعرف أن القوانين لها أدواتها التنفيذية التي قد تعطّلها، ونعرف أن تطبيق الأعراف الاجتماعية منوط بالصحة النفسية للمجتمع.
وهنا لا بدّ من إثارة بعض الأسئلة التي توضّح ما نرمي إليه، ومن هذه الأسئلة:
• ما قيمة حرية التعبير مع غياب المنبر؟
• وما قيمة حريّة الاعتقاد السياسي أو الديني مع غياب أو تغييب المنبر؟
• عن أي منبر نتحدّث؟ هل هو منبر الجماعة، أم منبر المجتمع؟
وأظنّ أن هذه الأسئلة جوهرية، الآن، في هذا الزمن، لأن القمع لم يعد عسكريا ينفّذ أوامر السلطان، وإنما اتخذ أدوات جديدة تتسرّب إلى غرف النوم، وحضانات الأطفال دون أن تكون ملموسة، أو مرئية، وهذه الأدوات على رأسها الإعلام الذي بات يشكّل الأداة الضاربة في تحقيق أهداف القوى المتنفّذة، وهي القوى المعادية، أو المقابلة في أحسن تقدير، للمجتمع المدني، ففي الوقت الذي نظن فيه أن الإعلام قادر على خدمة حركة المجتمع المدني، نجد الإعلام نفسه معاديا لهذا المجتمع من خلال تشويه صورة ما تختاره الجماعات، أو ما يختاره الأفراد من تفاصيل على القيم الأساسية للإنسان المدني، ولعلّنا لا نجانب الصواب إن أخذنا مثلا من صورة المسلم في الإعلام الغربي، وهو إعلام الحريّة المعياري الذي تقمع باسمه المجتمعات المخالفة في مواضعاتها.
وهنا ندخل إلى مفهوم الأمن الناعم الذي هو مفهوم القمع الناعم، فاتجاه القوى المستكبرة نحو استبدال الشرطي بمادة إعلامية لم يكن من عبث، وإنما ناتج عن آخر ما توصّلت إليه هذه القوى من أساليب ترى أنها ناجعة في تحقيق المآرب والأهداف بأقل الخسائر وأبلغ الآثار؛ إذ لم تكن هذه القوى تفكرّ، مجرّد تفكير، في تحسين صورتها، وهي الآن تنفق ما يعادل ما تنفقه على التسلّح من أجل هذا، أي من أجل تحسين الصورة!
إن تحسين الصورة، مع اعترافه ضمنيا بتشوّهها، فإنما يعني تعريض المستهدف إلى أكبر قدر من المحسّنات، والمغريات، التي تلبس عليه نفسه، ولا ضير في ذلك إن كان هذا خيارا اجتماعيا مدنيا، أما أن يكون خيارا للقوى المتنفذة لتنفيذ برامجها، فإنه يعيدنا إلى نقطة الصفر، ويعيدنا إلى توماس الاكويني، وقبله إلى أرسطو، وبعدهما إلى ماركس والصراع الطبقي، و غرامشي وصراع الإيديولوجيات، ويعيدنا إلى إعادة النظر في كثير من الأدوات التي يعبّر بها المجتمع المدني عن ذاته، وهنا نتحدّث عن العالم، وليس عن مجتمع دولة ما، وإعادة النظر هذه سوف تلبس الأمر على القوى الفاعلة المشكلة للمجتمع المدني، إذ إنها سوف تلجأ إلى البحث عن قوّة أخرى تكفل لها إعلامها الناجع، وتمنحه من المغريات ما يقابل مغريات السلطة الأقوى التي تقدّمها لإعلامها.
إن دخول القوى المتنفذة من زاوية المجتمع المدني قد ألبس الأمر كما أسلفت، وصار كثير من المفهومات مثيرا للريبة، وصارت كلمات الآخر، والمدني، والسلم كلمات تحتاج إلى تشفير قبل استخدامها لأنها ارتبطت بذلك الآخر، الذي ليس هو المختلف، وإنما المتنفذ المتكبّر، صاحب الجبروت والجبر.
وإذا انتقلنا إلى الشق الثاني، التطوّعية، فإننا عائدون إلى مربّع الشق الأول من الاحترازات، ذلك أن العمل التطوّعي يحتاج إلى ما ينعشه، وما ينعشه يحتاج إلى أن يكون القائمون به متحصلين على ما يورثهم الطمأنينة على احتياجاتهم الأساسية، ولا يمكن أن يكون ذلك موجودا في ظل دول لا تعترف بحق المواطن عليها، ولا تقوم بقوامتها على الوجه الأمثل، وهنا تلجأ المنظمات والهيئات إلى الدكتاتور الأكبر في التطور الإنساني، المال، والمال جبان، ومريب، ومشبوه إلى أن يثبت العكس، ولا يثبت العكس إلا بعد فوات الأوان.
إن تحقيق الحرية منوط بتحقيق الحياة الكريمة، وبلا حياة كريمة ستكون الحرية بلا جدوى لأنها ستتشوّه في البحث عن حياة (كريمة)، توفر الأساسيات للإنسان، ومن هنا كان لا بدّ للدولة، أي دولة أن تبحث في دعم العمل التطوّعي من خلال دعم القائمين عليه، العاملين عليها في الإسلام، حتى لا تكون منظمات المجتمع المدني موظفة عند المال، وصاحب المال، وهذا حال كثير من المنظمات السرطانية التي تنتشر في البلاد العربية، والعالم الثالث بعامّة، وهو ما جعل المجتمع المدني مسرحا لسعار السياسة، ومضمارا يتسابق فيه المستغلّون، النقيضون لكل ما هو مدني متّكئ على حاجة الجماعة ورغبتها، والفرد ورغبته: هل أقول إن دولا متميّزة في قمع الحرية تقوم بتدريب جماعات في دول أخرى على الحريّة؟ هل أحتاج إلى كثير بحث للتدليل على ذلك؟؟؟؟
أكاد أتحدّث هنا في المفهوم الأوسع للمنبر: المساحات الإعلامية، وقبول المجتمع، فنظرة المجتمع عندنا لمن يرهن نفسه للعمل التطوعي وهو يعيش الكفاف نظرة سيئة، إلا عند النخبة، أو نخبة النخبة، أما في الوسط الاجتماعي العام، فهي نظرة غير مريحة على الأقل، إن أردنا أن نخفف من كلمة (سيئة)، ولعلّي لا أجانب الصواب إن قلت إنّ قبول المجتمع هو أوسع منبر للتأثير، والتعبير، وقديما قيل: أسفروا ذا الوجه الحسن، واليوم نقول أسفروا ذا الوجه الحسن، بمعنى من يقبله الناس، ولا ينظرون إليه بوصفه عالة على غيره.
الحديث السابق عن التطوّع في مجال الخدمات الفوقية، أما التطوّع في مجال الخدمات الأخرى من توزيع الهبات، أو الزكاة، أو الإعانات، فأمر آخر ويحتاج إلى حديث آخر، يتّكئ على أن الحاجات الأساسية يجب أن تتوفر بتوفير مصادرها الحقيقية، أي توفير العمل لكل أفراد المجتمع القادرين على العمل، المستعدين له.
بقي أن ألخّص ما تذهب إليه هذه الورقة وأقول إن أخطر عدوّ للمجتمع المدني، والسلوك المدني هو تلاقي المال والإعلام، وهذان العدوّان هما ما يلجأ إليهما كثير من المنظمات العاملة في الحقوق المدنية والسلوك المدني… وهذا مبعث الأسف..


* شاعر وأكاديمي من الأردن

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

تعليق واحد

  1. احببت هده المقالة و شكرا على المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *