* يوسف حمدان
هو «الصّعلوكُ العظيم» كما وصفته القاصّة إنصاف قلعجي، و»الطفل الطاعن في الخيبات» كما وصفه القاص فاروق وادي، وصاحب «التداعيات الذي يجلس على جاعد»، كما كان يسمّي نفسه في مقالاته الصحفية. وقد أسقط أحدهم عليه أخيراً لقب «صاحب نشيد الصحراء» (الشّنفرى)، وبهذا، لم يحظَ كاتب في الأردن ما حظي به محمد طمّليه من ألقاب ساهمت في تلميعه وشهرته.
أما هو فيقول عن نفسه: «كنتُ في مطلع الستينيات طفلاً.. تزعم أمي أنني كنتُ طفلاً ولا كلّ الأطفال.. ذكيّاً ومشاغباً، وفي منتهى النغاشة (وأنا لا أملك إلاّ أن أؤيّد أُمي). وتزعم -أيْ أمي- أنّ أعراض الكتابة ظهرتْ عليّ قبل (الحصبة) وقبل (أبو دغيم)، وقبل الكسور التي لحقت بعظمي جراء عشقي للتسكع على الأسوار العالية، والحواف المخيفة، وتزعم – ما زلت أتحدث عن أُمي- أنّني كتبت وأنا في السابعة أو الثامنة قصة قصيرة قيل آنذاك إنّها رائعة.. من الذي قال ذلك؟ إنها جدّتي بالطبع، وأنا لا أملك إلاّ أن أؤيد جدتي».
أراد طمّليه من هذا الكلام أن يقول لنا إنّه حسم أمره، منذ أن كان صغيراً، وأنه كبر بسرعة، وأصبح من ثمّ كاتباً: «كبرتُ في غفلة منّي.. كبرتُ خلال ثلاثين سنة فقط.. أما الكتابة، فلأعترف أنني انشغلت عنها، أعني عن كتابة الأدب، بالصحافة.. سرقتني للأسف الشديد المقالة اليومية، ملعون أبو (شاهد عيان)، ذلك الاسم الذي التصق بي منذ أن أجاز (المرحوم) إبراهيم سكجها الذي كان رئيساً لتحرير (الدستور)، بتاريخ 17/12/1986، مقالتي الأولى».
حديث محمد طمّليه عن شقائه لا يقصد من ورائه «النّيل» و «التّنكيل» بتجربته الصحفية، التي يقول عنها إنها كانتْ ممتعة.. وذروة تلك المتعة كانت عندما يتحرّش بالدّوائر والمؤسسات، فيُستدعى إلى هنا أو هناك بعد مقالة عاصفة.. «وكم كان جميلاً أن أتظاهر بالهبل حين يقتضي الموقف ذاك»، و «كم كان جميلاً أن يكثر أصدقائي وأعدائي أيضاً.. حسبي أنني كنتُ صادقاً».. إلا أنه بقي مسكوناً بالقصّة، وحرص على حماية لغته من المفردات والتعابير الصحفية التي كان من الممكن أن تتسرّب إلى قلمه.. وربّما جعله هذا الهاجس دائم الارتحال من صحيفة إلى أخرى، في أكثر من محاولة له لاكتشاف نفسه «في نموذج صحفي مختلف.. وصياغة صحفية حيّة فيها نبض جديد».
كان يغيظه أن تتحوّل الصحافة إلى وظيفة، يمارسها المرء من أجل راتب شهري.. وكثيراً ما اختلطت عليه الأمور عندما يتوهّم أن تلك الصحيفة أو تلك هي المكان الملائم لجموحه، لكن سرعان ما كان يتضح له أنه عاجز عن التعايش مرة أخرى مع «الهراء».. إلى أن «زَفّ» إليه رسام الكاريكاتير فايز مبيضين، رفيقه في كثير من خيباته الصحفية والإبداعية، أنّ أمر تمويل «رصيف 91» (الصحيفة التي يحلمان بإصدارها معاً) بات محسوماً، وأنها (الرّصيف) باتت على مرمى حلم منهما، بل بوسعهما الآن أن يطلقا الصّافرة التي سيسمعها «النماريد» فقط بالضرورة، وسيسارعون إلى الالتحاق بثكنات الكتابة.. فكان أن صدر العدد الأول من «الرّصيف» في 6/10/1991.
كان محمد طمّليه بوصفه رئيس التحرير المسؤول، يأمل ألاّ تكون «الرصيف» صحيفة داجنة، ويتمناها صحيفة «بنت شوارع» على حدّ تعبيره.. صحيفة «لا يعجبها العجب».. صحيفة «نرفوزة»، ولكن «صادقة».
عمّرت «الرصيف» الأسبوعية المختلفة 13 عدداً، تبعتها صحيفة «قف» الأسبوعية أيضاً، والتي عمّرت 22 عدداً، وكان محمد طمّليه رئيساً لتحريرها.. ثم استقر الحال بـ «الصعلوك العظيم» و «الشنفرى» و «الطفل الطاعن بالخيبات»، كاتباً لعمود يومي في «العرب اليوم».
كتب فاروق وادي عن محمد طمّليه قائلاً: «وحده محمد طمّليه بعد ناجي العلي هو الذي جعلني أشرع في قراءة الصحيفة من صفحتها الأخيرة.. ووحده هذا الوغد المتألق، فاقد الحماسة لكلّ شيء، هو الذي يُحبط عيوني في أول إطلالاتها على الصّباح، إذا ما نسي موعده ولم يحضر في ذلك اليوم، لأنه ربّما يكون قد أفرط كثيراً في الليلة الماضية، بالضّحك أو الألم، فنسي موعده معنا على الصفحة الأخيرة».
* * *
وُلد محمد عبدالله طمّليه عام 1957 في قرية شمال الكرك تُدعى «أبو ترابه»، وقد لجأت أسرته إليها إثر نكبة فلسطين 1948 من قريتها الأصلية «عنّابة»/ قضاء «الرملة». تلقى تعليمه في مدارس الكرك، ثم التحق بالجامعة الأردنية وحصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها عام 1985.. عمل أثناء دراسته الجامعية سكرتيراً تنفيذياً برابطة الكتّاب الأردنيين، وبعد تخرجه اتجه للعمل في الصحافة، بالإضافة إلى عمله مديراً إدارياً لـ «غاليري الفينيق» بعد منتصف التسعينات، وقد رشح نفسه أكثر من مرّة لعضوية الهيئة الإدارية لرابطة الكتّاب، إلا أنه كما يقول فاروق واد): «لم يكن يخوضها إلاّ لكي ينجح وينسحب»!
* * *
في عدد «الرأي» (2/11/2001) ظهر محمد طمّليه على الصفحة الأولى لـ «الرأي الثقافي»، في حوار أجراه معه الشاعر زياد العناني، تحت مانشيت جريء: «كاتب يقترح جعل عام 2002 عاماً لغياب الثقافة.. طمّليه: أطالب الأدعياء بأن ينسحبوا بهدوء من رابطة الكتّاب قبل أن نرغمهم على ذلك».. و «نرغمهم» قالها نيابة عن الأعضاء «غير الأدعياء» كما يبدو من سياق الحوار «المدهش»، الذي بدأه محاوره بسؤال عن الراوي والقصّة والقصيرة والجديد عنده؟ فأجاب طمّليه السؤال بسؤال قال فيه: «دعني أصحّح مسار الحديث وأقول في هذا السياق: أين القصّة وأين الرواية عند الآخرين؟ وأين الشعر عند الشعراء؟ لستُ المفلس وحدي، كان بإمكاني أن أكتب (الهراء) لكي أحصل على جائزة.. ما ينتج الآن هو عبارة عن قصائد مشوّهة.
* * *
بدأ محمد طمّليه حياته الإبداعية بمجموعته القصصية «المتحمسون الأوغاد» التي كتب لها القاص سالم النّحاس مقدمةً لدراسة في صيغة رسالة موجهة إلى المؤلف، وأصدرتها له رابطة الكتّاب الأردنيين (1984/1985).
اللافت للنظر ما رسمه الفنّان فايز مبيضين على غلافها المتواضع، فقد رسم جسداً لحيوان يشبه القط والكلب والأسد في آن، وجعل له رأساً آدمياً عارياً بلحية صغيرة مخروطية الشكل، وفم واسع يتلاءم مع الجسد الحيواني المركّب عليه، بينما تاهت العينان «الآدميتان» في الأفق، لتتشكل بهذه الصورة الكاريكاتيرية ملامح «المتحمسون الأوغاد» الذين عناهم طمّليه.
ولمحمد قبل هذه المجموعة، ثلاث مجموعات كان يصرّ على عدم الاعتراف بها، وهي «جولة العرق» و «الخيبة» و «ملاحظات حول قضيّة أساسية».. وهناك رواية يتيمة بدأ بها في الثمانينات ولم يُكملها. وعنها يقول إنّه يحب «تلك المرأة التي كانت تطبخ الحجارة لأبنائها، أما متى ستنضج هذه الحجارة فالله أعلم!»، كما أعلن محمد عن مسرحية أيضاً كان يكتبها على مهل «لأنه سيعيش ألف عام»!.
* * *
أما رابطة الكتاب، فلم يكن محمد طمّليه ابنها العاقّ في يوم ما، لكن سؤاله الذي ظل يردده: «هل يمكن لأم أن تُنتج 500 ابن وهي في عمْر الزهور؟»، وكان يطالب دائماً بتصفية الشّوائب في الرابطة، في إشارة إلى الذين أصبحوا «أعضاء» لاعتبارات حزبية وشكلية.
______
*(الرأي)