عشر سنوات من حياتي:نساء زهراو;المأساة بصيغة التأنيث


*علاء المفرجي

يختار المخرج خالد زهراو، بعد عدد من الوثائقيات التي حققها عقب عودته من مغتربه هولندا، موضوعة تجلت في غير فيلم له، وان لم تكن بمثل هذه المطابقة واعني بها محطات تاريخ العراق. فخالد زهراو حتى وهو يحفر في تاريخ السينما في العراق وهمومها، من خلال عدد من الافلام التي كرسها لهذا الموضوع مثل(هذه الليلة، الأسبوع القادم) وسلسلة (دفاتر السينما العراقية) فانه ينشغل بالخلفيات التاريخية لموضوعه، ففي فيلم (هذه الليلة..) يطل من نافذة إبداعية وثقافية هي السينما، ليقف ويقف معه المتلقي عند محطات مهمة من تاريخ بلده منذ ما قبل تأسيس الدولة، وليس انتهاءً بانهيارها مع سقوط الدكتاتور.

في فيلمه الجديد(عشر سنوات من حياتي) او نساء من العراق يدخل بشكل مباشر الى التاريخ، وتاريخ محدد بعشرة اعوام من عمر الوطن.. هي ايضاً اعوام مفصلية في هذا التاريخ، اعوام ناءت بعبء سنوات عجاف، سنوات من القهر، وليس في الافق ان تكون منطلقاً لمستقبل مختلف.
عشر سنوات هي عمر وطن، ومهمة الصانع -صانع الفيلم- هو ان يكون موثقاً يحاول قدر ما يستطيع ان لا يحيد عن الحقيقة.
اختار خالد زهراو سبع نساء من خلفيات وانتماءات اجتماعية واهتمامات مختلفة، والاهم ما يجمعهن انتمائهن للطبقة الوسطى، التي عانت على مدى العقود الاربعة الاخيرة مزيداً من الاقصاء والتهميش حد الالغاء، اختارهن ليروين السنوات العشر المتخمة بالاحداث الدراماتيكية بصيغة التأنيث، والاختيار هنا -اعني اختيار نساء- يحسب لزهراو، ذلك ان رواية مثل هذه الاحداث تكتسب الصدق والعمق انطلاقاً من ان نساء هذا الوطن هنّ الاكثر حساسية لهول الحدث.
منذ المشهد الاول في الفيلم والذي تستعرض فيه الكاميرا وجوه نساء زهراو، تتجلي مرارة السنوات العشر على ملامح هذه النساء، ونظراتهن الساهمة، باتجاه المجهول.. وهو مدخل يهيئ المشاهد لتفاصيل السنوات العشر، او قل لفواجعها.
اعتمد المخرج للتأكيد على صدقية الحدث وموضوعية السرد صيغة المقابلات المباشرة للاشخاص- وهنا النساء السبع- لكن هذا لم يكن على حساب تفاصيل الواقع نفسه، باعتبار ان هذا النوع في طرح الموضوع هو الاسهل.. فقد حرصت كاميرا زهراو ان يكون الانتقال من وجوه النساء بما تختزنه من تعبير وتلقائية في سرد الاحداث وتفاصيلها كما جرت في الواقع، سلسة وغير مفتعلة، وهو ما منح انسيابية واضحة في متابعة الحدث.
السؤال الذي تلقاه منظر السينما الوثائقية الكبير دزيغا فيرتوف من احد تلامذته والمتمثل “بايهما اهم في هذه السينما المخرج ام المصور؟”، يجد اجابة او لنقل ترجمة حقيقية له.. فبين ان تكون حيوية الموضوع، اهم من عمل المخرج الذي يختصر دوره في استلام الموضوع وعرضه.. او على العكس موضوع غير مثير وغير حيوي، وهنا تبرز “ادارة المخرج المتوترة” كما يسميها فيرتوف.
خالد زهراو تعاطى مع هذه المعادلة بحذر واضح بين ان يبرز حيوية الموضوع، ويدخل مهاراته في إدامة هذه الحيوية.. وكان ما فعله زهراو هو بالضبط اجابة فيرتوف “مثلما يجيب الاطفال عندما يسألون من الافضل، بابا او ماما، فيجيبون حينها :.. الاثنان افضل”.
حيوية الموضوع اغنتها صيغة المقابلات او طريقتها، التي لم يتدخل المخرج فيها سوى باقتناصها بعدسته، وهي تقدم شهاداتها الحية عن الاحداث التي تترك بدورها التعبير الملائم على وجوه هذه النساء، فرح، حزن، قلق، غضب.
توالى ظهور النساء في الفيلم وفقاً لطبيعة الحدث سبع نساء تسرد كل منهن تجربتها خلال السنوات العشر التي تلت سقوط النظام عام 2003، الرسامة، والصحفية، والمعمارية، والفوتوغرافية، والمراسلة الإعلامية… الخ.
الظهور الاول كان عن مشاعرهن لحظة سقوط الصنم.. فتباينت ارائهن بين من اعتبرته صدمة، او بارقة امل، او لحظة خلاص.
بينما يتكرر مشهد سقوط تمثال الدكتاتور في احدى ساحات بغداد، كما عرضته شاشات الفضائيات حينها باكثر من زاوية.. وهنا يغلب على حديث النساء مسحة الامل بغد مشرق ومستقبل ينعم بالاستقرار.. لكن فسحة التفاؤل في الحديث لا تستمر في الظهور الثاني للنساء حيث خيبة الأمل بالتغيير، ثم المعاناة بل والمأساة التي حصلت خلال السنوات الاربع الاولى من التغيير التي وصلت ذروتها بنزاع طائفي دموي احرق الأخضر واليابس.
في هذا الظهور تقدم النساء صورة بانورامية للكارثة التي أحاقت بالبلد.. تروي الصحفية المخضرمة نرمين المفتي كيف اغتيلت بطريقة سادية زميلتها وتلميذتها مراسلة العربية اطوار بهجت، فيما تتحدث الطبيبة زينة الحلفي عن اختطاف ابنتها البالغة من العمر اربعة اعوام ثم تصفيتها بطريقة همجية.. وتروي نوف عاصي لحظات تدمير بيت عائلتها من قبل الارهابيين، بينما تسرد صابرين كاظم المراسلة التلفزيونية بطريقة تهكمية ما تعانيه وهي في طريقها الى مقر عملها او إثناء ممارستها لعملها الاعلامي من قبل بعض المتشددين.
وهكذا مع النساء الاخريات وهن يتناولن الحدث المأساوي من جاونبه المختلفة.
في الظهور الثالث والذي كان يمكن للمخرج ان يختصر فيه اجابات النساء المتحدثات بجملة واحدة مثلاً .. اكو امل (صابرين) او سلسلة من الاحزان (زينة) او هناك امل برغم كل شيء (سندس).. وهكذا، وكان من شأن ذلك اختصار مدة الفيلم -80 دقيقة- وإنقاذه من بعض الترهل.
دور المخرج كان واضحاً كصانع في توظيف المادة الوثائقية، وإن جانبه النجاح احياناً في التمييز بين مادة الواقع وبين المادة السينمائية، وهي هنا الوثيقة.
خالد زهراو تجاوز نفسه كثيراً في هذا الفيلم، وهو برأيي المتواضع سعي حثيث لتقديم وثيقة تاريخية لاشك انها ستكون مادة مفيدة للباحثين والمؤرخين مستقبلاً.
_______
*(المدى)

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *