المنشقّ


د. موسى برهومة*

( ثقافات )


حينما كتبَ، ذات مرة، عن وجوه أصحابه البلاستيكية وقلوبهم التي تشبه كوب طفلته، كان يتلمس التصدّع الذي أتى على النواة الأولى من دائرته الضيقة، ما دفعه إلى البحث عن عالم أكثر حميمية، حيث المرأة التي عصفت صورها بمخيلته، مُحبّة وحنونة ومعطاءة ومترفعة عن صغائر الأشياء ومقارباتها، لكنه ألفى أن عطباَ شديداً يتملك هذا الكائن “الرقيق” الذي لا يختلف عن أؤلئك البلاستيكيين الذين أضرموا نيران جحودهم في هشيمه!

ثم طفق، وهو يصرّ على مقاومة اليأس، ينخرط في المجال العام، شاهراً قلمه وصوته ورباطة جأشه في مناهضة سياسات حاكمة موغلة في الفساد والجور والعفونة، فأحس نفسه، بعد أن انفضّ الرفاق عن المسير، وحيداً يمشي في شوارع تنكره، ولمّا حدق في الشعار الذي أوجع حنجرته ألفاه مسكوناً بالنقائض.
لم يسلّم بالهزيمة، فقرر أن يرفع جرعة النقد حتى تطرّفها النهائي، ظانّاً أنه بهذا السبيل يوجه طعنة نجلاء إلى طغمة المتاجرين بالحاكمية غير الرشيدة في بلاد يقتلها الظمأ إلى الحرية والعدالة والكرامة وعيْش قيم المواطنة، لكنّ البدن القاسي للخصم أثلم خنجره.
تسلل إحساس كاوٍ باللاجدوى في كل ما يُقدِم عليه، وشعر لوهلة أنه لا يشبه نفسه، أو أن ثمة خللاً بنيوياً يستوطن روحه فيوجّه خياراته على نحو غير مستبصِر. شعر أن حمولة باهظة ترزح فوق كتفيه ينوء بها قلبه الذي ظل خفّاقاً بالجمال والخير، والرغبة الحثيثة في القفز من السفينة العامة، والبحث عن خلاصه الفردي. ولعله هجس، لحظة ذاك، بمقولة ذلك الحكيم عن المنفعة التي يمكن للمرء أن يحصدها إن هو كسب العالم، وخسر نفسه.
ثم فكّر بعمق بمقولة “سارتر” عن الجحيم الذي يقذفك إلى رمضائه الآخرون، كما أعاد النظر في الطاقة السلبية التي تأتيه من مصادر كثيرة أغلبها إنسيّ، فقرّر التخلّص ببطء منها مثل جرّاح يستأصل أوراماً من جسدٍ مريض.
قادته هذه الأفكار والهواجس إلى عزلة اضطرارية وفّرها له منفى اختياري كابد في غضونه الأمرّين، وتضاعفت شحنات الغضب المحاذي لليأس، وحِيل بينه وبين الرضى، لكنّ رغبته في التوازن وإعادة ولو شيئاً من السكينة إلى نفسه كانت أقوى من كثافة العتمة المستوطنة في أعطافه.
مضى نحو العقل المجرد الذي يعلو على التجربة الحسية المباشرة، فكشط كل الأثلام التي علقت بدماغه، وأحسّ في لحظات كثيرة أنه مدعوّ لإمساك رأسه وخضهّا بعنف كي تتساقط منها الأتربة والأوساخ.
ولطالما اعتصم بالشعر وبكاتبه العبقري الأثير محمود درويش، مشاطراً الشاعر رغبته:
“لو أستطيع أعدتُ ترتيب الطبيعة، ههنا صفصافة… وهناك قلبي، ههنا قمر التردّد، ههنا عصفورة للإنتباه”.
ولربما قادته تلك التأملات الضارية إلى الشك بكثير مما كان يعتقده مسلّمات أو يقنيات في الحب والصداقة والسياسة والهوس المريض بالأوطان، فرغب في أن ينشقّ، وألا ينتمي إلى أي شيء ينتقص من إنسانيته، أو يخدش الكريستالة المرهفة التي تلتمع في قلبه.
وحين أتأمله بعينين جاحظتين، أحاول أن أحصي خساراته التي ربحها، كي ينقذ نفسه من الانزلاق إلى الهاوية، فأشعر أنه مضى نحو درب طويل يتعين عليه في غضونه أن يواصل الانشقاق، وهو “يبكي ويضحك لاحزناً ولا فرحاً، كعاشقٍ خطَّ سطراً في الهوى ومحا”!

* كاتب وإعلامي من الأردن
 -(الحياة).

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *